تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 3 من سورة الروم
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فالمقصود من الكلام هو جملة { وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } وكان ما قبله تمهيداً له . وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث على المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غَلَبوا الروم هم الفرس .
و { الروم : اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا . تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوروبا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول . وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين ، وسمَّوا الروم أيضاً ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبي المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة إنه يخافه مَلِك بني الأصفر .
وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكوُّن أمة الروم من الخليطين ، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجاً بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق ، ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقالبة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور . وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين . وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألّفوا اتحاداً بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني . وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصراً لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية ، وجمع شتات المملكة فجعل للمملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية ، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة . وبعد موته سنة 337 قُسمت المملكة بين أولاده ، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس ، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان .
وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية ، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية . ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطىء البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفاً . وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسُمِّي ميناءها بالقرن الذهبي . وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا . وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جُعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية .
وهذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية . وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم ، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات . وذلك هو المراد في هذه الآية في أدْنَى الأرْض } أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب .
فالتعريف في { الأرْض } للعهد ، أي أرض الروم المتحدث عنهم ، أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي في أدنى أرضهم ، أو أدنى أرض الله . وحذف متعلق { أدنى } لظهور أن تقديره : من أرضكم ، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب ، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب . وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم .