تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 57 من سورة الروم

فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
تفريع على جملة { كذلك كانوا يؤفكون } [ الروم : 55 ] . والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة ، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم ، ففيه الاعتداء على حق الله ، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب ، وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب ، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم .
والمعذرة : اسم مصدر اعتذر ، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير . وهو مشتق من فعل عذره ، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله . وإضافة ( مَعْذِرَة ) إلى ضمير { الذين ظلموا } تقتضي أن المعذرة واقعة منهم . ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم { ما لبثوا غير ساعة } [ الروم : 55 ] كما تقدم ، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف ، أي : لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم { غَلبتْ علينا شقوتنا } [ المؤمنون : 106 ] وقولهم { هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] .
واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } [ المرسلات : 36 ] المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه ، أي : المقبول ، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] . والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 106 108 ] وقوله { لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } [ المؤمنون : 65 ] .
وقرأ الجمهور { تنفع } بالمثناة الفوقية . وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن ( معذرة ) مجازيُّ التأنيث ، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول .
و { يُستعتبون } مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب ، إذا سأل العُتبَى بضم العين وبالقصر وهي اسم للإعتاب ، أي إزالة العَتب ، فهمزة الإعتاب للإزالة ، قال تعالى : { وإن يَستعتبوا فما هُمْ من المُعتَبين } [ فصلت : 24 ] ، فصار استُعتب المبني للمجهول جارياً على استَعتب المبني للمعلوم فلما قيل : استعتب بمعنى طلب العُتبى صار استُعتب المبني للمجهول بمعنى أُعْتِب ، فمعنى { ولا هم يستعتبون } : ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله { فما هم من المعتبين } . وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام ، وبعض اشتقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تكلفات في المعنى لا يرضى بها الذوق السليم ، والعجب وقوعها في «الكشاف» . وقال في «القاموس» : واستعتبه : أعطاه العتبى كأعتبه ، وطلب إليه العتبى ضدٌّ . والمعنى : لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو . وتقدم قوله { ولا هم يستعْتبون } في سورة النحل ( 84 ) .