تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 28 من سورة لقمان
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
استئناف بياني متعلق بقوله { إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا } [ لقمان : 23 ] لأنه كلما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه وتقريبه . وكانوا أيضاً يقولون : إن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً فكيف يبعثنا خلقاً جديداً في ساعة واحدة وكيف يحيي جميع الأمم والأجيال التي تضمنتها الأرض في القرون الكثيرة ، وكان أُبَيّ بنُ خلف وأبو الأسد أو أبو الأسدين ونُبَيْه ، ومُنبِّه ، ابنا الحجاج من بني سهم ، يقولون ذلك وربما أسرّ به بعضهم . وضميرَا المخاطَبين مراد بهما جميع الخلق فهما بمنزلة الجنس ، أي ما خلْقُ جميع الناس أول مرة ولا بَعْثُهم ، أي خلقُهم ثاني مرة إلا كخلق نفس واحدة لأن خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دال على تمام قدرة الخالق تعالى فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل والكثير والبدء والإعادة .
وفي قوله { ما خلقكم ولا بعثكم } التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المُفْحِم .
وفي قوله { كنفس واحدة } حذف مضاف دل عليه { ما خلقكم ولا بعثكم . } والتقدير : إلا كخلق وبعث نفس واحدة . وذلك إيجاز كقول النابغة :
وقد خِفت حتى ما تزيدُ مخافتي ... على وَعِل في ذي المَطارة عاقِل
التقدير : على مخافة وعل . والمقصود : إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة .
وجملة { إن الله سميع بصير } : إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالاً بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة إنما يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده ، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء ، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفاً : { إن الله عليم بذات الصدور } [ لقمان : 23 ] ، ولأجل هذا لم يقل : إن الله عليم قدير .