تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 17 من سورة الأحزاب
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{ قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رحمةً }
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة { لن ينفعكم الفرار إن فررتم } الآية [ الأحزاب : 16 ] ، فكأنه قيل : فمن ذا الذي يعصمكم من الله ، أي : فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم . وإعادة فعل { قل } تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة .
والمعنى : لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطّل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرّاً حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد ، ومتى شاء خيراً خاصاً بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقباً ، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرْسَل الأحوال في مهيعها وخلّى بين الناس وبين ما سَببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيباً على حسب فطْنته ومقدرته واهتدائه ، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده ، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال .
وجملة { من ذا الذي يعصمكم } الخ جواب الشرط في قوله { إن أراد بكم سوءاً } الخ ، أو دليل الجواب عند نحاة البصرة .
والعصمة : الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم . وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوءٌ خاص وهو السوء المجعول عذاباً لهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدّر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده ، فيجري على خلاف القوانين المعتادة .
وعطف { أو أراد بكم رحمة } على { أراد بكم } المجعول شرطاً يقتضي كلاماً مقدراً في الجواب المتقدم ، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل { يعصمكم } لأن الرحمة مرغوبة . فالتقدير : أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة ، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازاً للكلام ، كقول الراعي :
إذا ما الغانيات برزنَ يوماً ... وزجَّجْن الحواجب والعيونا
تقديره : وكحّلن العيون ، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجبُ وذلك من التزّين .
{ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً نَصِيراً }
عطف على جملة { قل من ذا الذي يعصمكم ، } أو هي معترضة بين أجزاء القول ، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة . والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من قبيل الالتفات . والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبي عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيراً غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله . والمراد بالولي : الذي يتولى نفعهم ، وبالنصير : النصير في الحرب فهو أخص .