تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 68 من سورة الأحزاب

رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
فالمقصود الإِفضاء إلى جملة
{ ربنا آتهم ضعفين من العذاب } . ومقصود من هذا الخبر ايضاً الاعتذار والتنصل من تَبِعة
ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون ، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من
الحقيقة إذ قالوا : { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } فيتجه عليهم أن يقال لهم : لماذا أطعتموهم
حتى يغروكم ، وهذا شأن الدهماء أن يسوِّدوا عليهم من يُعجبون بأضغاث أحلامه ، ويُغَرُّون
بمعسول كلامه ، ويسيرون على وقع أقدامه ، حتى إذا اجتنوا ثمار أكمامه ، وذاقوا مراراة
طعمه وحرارة أُوامه ، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه .
وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار ، وتقديم قولهم : { إنا أطعنا سادتنا
وكبراءنا } اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم : { فأضلونا السبيلا } لأن كبراءهم ما
تأتَّى لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر
والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبّة . وبتسبب وضعهم أقوالَ سادتهم
وكبرائهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم .
وانتصل { السبيلا } على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدّى بالهمزة إلا أن مفعول
واحد قال تعالى : { لقد أضلني عن الذكر } [ الفرقان : 29 ] . وظاهر « الكشاف » أنه يتعدّى إلى
مفعولين ، فيكون ( ضل ) المجرد يتعدى إلى مفعول واحد .
تقول : ضللت الطريق ، و
( ضل ) يتعدى بالهمزة إلى مفعولين . وقاله ابن عطية .
والقول في ألف { السبيلا } كالقول في ألف { الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] .
وإعادة النداء في قولهم : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } تأكيد للضراعة والابتهال
وتمهيد لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوهُ على
كاهل كبرائهم .
والضِعف بكسر الضاد : العدد المماثل للمعدود ، فالأربعة ضعف الاثنين . ولما كان
العذاب معنى من المعاني لا ذاتاً كان معنى تكرير العدد فيه مجازاً في القوة والشدة .
وتثنية { ضعفين } مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى :
{ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] فإن البصر لا
يخسَأ في نظرتين ، ولذلك كان قوله هنا : { آتهم ضعفين من العذاب } مساوياً لقوله :
{ فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } في سورة الأعراف [ 38 ] . وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال
عليهم ، وأن العذاب الذي أعدّ لهم يسلط على أولئك الذين أضلّوهم .
ووُصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا
عذاباً لكفرهم وعذاباً لتسببهم في كفر أتباعهم .
فالمراد بالكثير الشديد القوي ، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله :
{ ضعفين } المراد به الكثرة .
وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قِبل الجلالة بقوله : { قال لكل ضعف } [ الأعراف :
38 ]
يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضاً
استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم ولتوسيد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم .