تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 1 من سورة فاطر
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
افتتاحها ب { الحمد لله } مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها ، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة مِن خلقِهِ السماوات والأرض وأفضللِ ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإِثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذان { الحمد لله } باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة .
والفاطر : فاعل الفَطْر ، وهو الخلق ، وفيه معنى التكون سريعاً لأنه مشتق من الفطر وهو الشق ، ومنه { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } [ الشورى : 5 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] . وعن ابن عباس «كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض ( أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتُها . وأحسب أن وصف الله ب { فاطر السماوات والأرض } مما سبق به القرآن ، وقد تقدم عند قوله تعالى { فاطر السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وقوله : { وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض } في آخر سورة يوسف ( 101 ) فضُمَّه إلى ما هنا .
وأما جاعل } فيطلق بمعنى مكوِّن ، وبمعنى مُصَيِّر ، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله : { رسلاً } بين أن يكون مفعولاً ثانياً ل { جاعل } أي جعل الله من الملائكة ، أي ليكونوا رسلاً منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية ، وبين أن يكون حالاً من { الملائكة } ، أي يجعل من أحوالهم أن يُرسَلوا . ولصلاحية المعنيين أُوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول { فاطر } .
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم .
وأجري عليهم صفة أنهم رُسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة ، أي جاعلهم رسلاً منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس .
وقوله { أولي أجنحة } يجوز أن يكون حالاً من { الملائكة } ، فتكون الأجنحة ذاتيةً لهم من مقومات خلقتهم ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { رسلاً } فيكون خاصة بحالة مَرسوليتهم .
و { أجنحة } جمع جَناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإِنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعوداً ونزولاً لا يعلم كنهها إلا الله تعالى .
و { مثنى } وأخواتُه كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مَثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثُلاث ورُباع . والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة ، وقيل : يجوز إلى العشرة . والمعنى : اثنين اثنين الخ . وتقدم قوله : { أن تقوموا لله مثنى وفرادى } في سورة سبأ ( 46 ) .
والكلام على أولي } تقدم .
والمعنى : أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف ، وبعضها ثلاثةً ثلاثة ، وبعضها أربعةً أربعةً ، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعداداً كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود : «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» .
ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين . والأظهر أن الأجنحة للملائكة من أحوال التشكل الذي يتشكلون به . وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم «لو رأيت إسرافيل إنّ له لاَثنَيْ عشرَ ألفَ جناح وإن العرش لعلى كاهله» .
واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب «المقاصد» «إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة ، شأنهم الخير والطاعة ، والعلم ، والقدرة على الأعمال الشاقة ، ومسكنُهم السماوات ، وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة» . ا ه . ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات .
وعندي : أن تعريف صاحب «المقاصد» لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليطٍ في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات .
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض .
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم . دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] ، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي ، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة في صورة «رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفَر ، ولا يَعرفه منا أحد ( أي من أهل المدينة ) حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه» الحديث ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل " هل تدرون من السائل؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " كما في «الصحيحين» عن عمر بن الخطاب .
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي ، وظهورهُ للنبيء صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ناساً لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم .
وجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة ، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا تُوقَّت .
ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه . فالمراد بالخلق : المخلوقات كُلّها ، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خَلققٍ آخر . فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض ، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام . ويجوز أن تكون جملة { يزيد في الخلق ما يشاء } صفة ثانية للملائكة ، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى { يزيد في الخلق ما يشاء } . وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر .
وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تعليل لجملة { يزيد في الخلق ما يشاء } ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } [ إبراهيم : 10 ] ، فأجيبوا بقول الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] .