تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 66 من سورة يس
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) عطف على جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ يس : 48 ] . وموقع هاتين الآيَتَين من التي قبلهما أنه لما ذكر الله إلجاءهم إلى الاعتراف بالشرك بعد إنكاره يوم القيامة كان ذلك مثيراً لأن يهجس في نفوس المؤمنين أن يتمنوا لو سلك الله بهم في الدنيا مِثل هذا الإِلجاء فألجأهم إلى الإِقرار بوحدانيته وإلى تصديق رسوله واتباع دينه ، فأفاد الله أنه لو تعلقت إرادته بذلك في الدنيا لفعل ، إيماء إلى أن إرادته تعالى تجري تعلقاتها على وفق علمه تعالى وحكمته . فهو قد جعل نظام الدنيا جارياً على حصول الأشياء عن أسبابها التي وكل الله إليها إنتاج مسبباتها وآثارها وتوالداتِها حتى إذا بَدَّل هذا العالم بعالم الحقيقة أجرى الأمور كلها على المهيع الحق الذي لا ينبغي غيره في مجاري العقل والحكمة . والمعنى أنّا ألجأناهم إلى الإِقرار في الآخرة بأن ما كانوا عليه في الدنيا شرك وباطل ولو نشاء لأريناهم آياتنا في الدنيا ليرتدعوا ويرجعوا عن كفرهم وسوء إنكارهم .
ولما كانت { لو } تقتضي امتناعاً لامتناع فهي تقتضي معنى : لكنّا لم نشأ ذلك فتركناهم على شأنهم استدراجاً وتمييزاً بين الخبيث والطيّب . فهذا كلام موجه إلى المسلمين ومراد منه تبصرة المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على ما يلاقونه من المشركين حتى يأتي نصر الله .
فالطمس والمسخ المعلقان على الشرط الامتناعي طمس ومسخ في الدنيا لا في الآخرة . والطمس : مسخ شواهد العين بإزالة سوادها وبياضها أو اختلاطهما وهو العمى أو العَور ، ويقال : طريق مطموسة ، إذا لم تكن فيها آثار السائرين ليقْفُوَهَا السائر . وحرف الاستعلاء للدلالة على تمكن الطمس وإلا فإن طَمسَ يتعدى بنفسه .
والاستباق : افتعال من السبق والافتعال دال على التكلف والاجتهاد في الفعل أي فبادروا .
و { الصراط } : الطريق الذي يُمشى فيه ، وتعدية فعل الاستباق إليه على حذف ( إلى ) بطريقة الحذف والإِيصال ، قال الشاعر وهو من شواهد الكتاب :
تَمرُّون الديار ولم تَعُوجُوا
أراد : تمرون على الديار .
أو على تضمين «استبقوا» معنى ابتدروا ، أي ابتدروا الصراط متسابقين ، أي مسرعين لِما دهمهم رجاءَ أن يصلوا إلى بيوتهم قبل أن يهلكوا فلم يبصروا الطريق . وتقدم قوله تعالى : { إنا ذهبنا نستبق } في سورة يوسف } ( 17 ) .
و«أنَّى» استفهام بمعنى ( كيف ) وهو مستعمل في الإِنكار ، أي لا يبصرون وقد طمست أعينهم ، أي لو شئنا لعجلنا لهم عقوبة في الدنيا يرتدعون بها فيقلعوا عن إشراكهم .