تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 141 من سورة الصافات
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) وتفريع { فَسَاهَمَ } يؤذن بجمل محذوفة تقديرها : فهال البحر وخاف الراكبون الغرق فساهم . وهذا نظير التفريع في قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] والمذكور في كتاب «يونان» من كتب اليهود : أن بعضهم قال لبعض : هلمّ نُلْققِ قرعة لنعرف مَن هو سبب هذه البلية فألقَوا قرعة فوقعت على يونس . وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن القرعة خرجت ثلاث مرات على يونس .
وسنُة الاقتراع في أسفار البحر كانت متَّبعة عند الأقدمين إذا ثقُلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع . وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في «شرح الطغرائية» : أن بعض الأصحاب يدعي أن مركباً فيه مسلمون وكفار أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إ لى البحر ليخفّ المركب فينجو بعضهم ويسلم المركب فقالوا : نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه . فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال : ليس هذا حكماً مرضياً وإنما نَعدّ الجماعة فمن كان تاسعاً ألقيناه فارتضَوْا بذلك فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون وهذه صورة ذلك ( وصوَّر دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود ، فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداءُ العَدّ وهو إلى جهة الشِمال ) قال : ولقد ذكرتها لنور الدين علي بن إسماعيل الصفدي فأعجبته وقال : كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب فقلت له : الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو
: ... اللَّه يقضي بكل يسر ويرزق الضيف حين كانا ا . ه ... وكانت القرعة طريقاً من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء . وقد تقدم في سورة آل عمران ( 44 ) عند قوله : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها لفصل التنازع يزعمون أنها دالة على إرادة الله تعالى عند الأمم المتدينة ، أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييزَ صاحب الحق عند التنازع . ولعلها من مخترعات الكهنة وسَدنة الأصنام . فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال ، ولكن الشرائع الحقَّ لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يُصار إليها إلا عند التساوي في الحقّ وفقداننِ المرجِّح ، الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه ، فهي من بقايا الأوهام . وقد اقتصرت الشريعة الإِسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه . مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسِمين إذ تشاحوا في أحدها ، قال ابن رشد في المقدمات } : «والقرعة إنما جعلت تطييباً لأنفس المتقاسمين وأصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس : { فساهم فكان من المدحضين .
وعندي : أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعاً صحيحاً كان قبل الإِسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجرَوْا الاستهام على يونس ، على أن ما أُجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام . فلو صح أن ذلك كان شرعاً لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا .
قال ابن العربي : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا يجوز فيمن كان عاصياً أن يقتل ولا أن يرمَى به في النار والبحر . وإنما تجري عليه الحدود والتعزيرُ على مقدار جنايته . وظَنّ بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفاً ، وهذا فاسد فلا تُخفَّف برَمْي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبِرون على قضاء الله . وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم .
وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن :
الأول : } كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه أن رجلاً أعتق في مَرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين وهما معادل الثلث وأرقّ أربعة .
الثالث : أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست ، فقال : اذهبا وتوخيا الحق واستَهِما وليُحَلل كل واحد منكما صاحبَه .
واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين : الصحيح منهما الاقتراعُ ، وبه قال أكثر فقهاء الأمصار ، وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة .
قال القرافي في «الفرق» ( 240 ) : متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الاقتراع لأن في القرعة ضياع الحق ومتى تساوت الحقوق أو المصالح فهذا موضع القرعة دفعاً للضغائن فهي مشروعة بين الخُلَفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية والأيمةِ والمؤذنين إذ استووا والتقدم للصف الأول عند الازدحام وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم وبين الحاضنات والزوجات في السفر والقسمة والخصوم عند الحكام في عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم في المرض ولم يحملهم الثلث . وقاله الشافعي وابن حنبل . وقال أبو حنيفة : لا تجوز القرعة ( بينهم ) . ويعتق من كل واحِد ثلثُه ويستسعَى في قيمته ووافق في قيمة الأرض . قال : والحق عندي أنها تجري في كل مشكل ا . ه . قلت : وفي «الصحيح» «عن أم العلاء الأنصارية أنه لما اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وقع في سهمهم عثمانُ بن مظعُون» الحديث . وقال الجصاص : ( احتج بهذه الآية بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض . وذلك إغفال منه لأن يونس ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله فدلّ على أنه خاص فيه ) . وقال في سورة آل عمران : «ومن الناس من يحتج بإلقاء الأقلام في كفالة مريم» على جواز القرعة في العبيد يعتقهم الرجل في مَرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا ( أي إلقاء الأقلام ) من عتق العبيد في شيء لأن الرضى بكفالة الواحِد منهم مَريمَ جائزٌ في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية ، وقد كان عتق الميّت نافذاً في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه .
والإِدحاض : جعل المرء داحضاً ، أي زالقاً غير ثابتتِ الرِجلين وهو هنا استعارة للخسران والمغلوبية .
ومعنى قوله : { إلى يوم يُبعثون } التأبيد بأن يميت الله الحوت حين ابتلاعه ويبقيهما في قعر البحر ، أو بأن يختطف الحوت في حجر في البحر أو نحوه فلا يطفوَ على الماء حتى يبعث يونس يوم القيامة من قعر البحر .