تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 65 من سورة الصافات
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) و { رُءُوسُ الشَّياطِينِ } يجوز أن يكون مراداً بها رؤوس شياطين الجنّ جمع شيطان بالمعنى المشهور ورؤوس هذه الشياطين غير معروفة لهم ، فالتشبيه بها حوالة على ما تصوّر لهم المخيّلة ، وطلع شجرة الزقوم غير معروف فوُصف للناس فَظيعاً بَشِعاً ، وشبهت بشاعته ببشاعة رؤوس الشياطين ، وهذا التشبيه من تشبيه المعقول بالمعقول كتشبيه الإِيمان بالحياة في قوله تعالى : { لتنذر من كان حياً } [ يس : 70 ] والمقصود منه هنا تقريب حال المشبّه فلا يمتنع كون المشبه به غير معروف ولا كون المشبه كذلك .
ونظيره قول امرىء القيس :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال ... وقيل : أريد برؤوس الشياطين ثمر الأسْتن ، والأسْتَن ( بفتح الهمزة وسكون السين وفتح التاء ) شجرة في بادية اليمن يشبه شخوص الناس ويسمى ثمره رؤوس الشياطين ، وإنما سمّوه كذلك لبشاعة مرآه ثم صار معروفاً ، فشبه به في الآية . وقيل : { الشياطِينِ : } جمع شيطان وهو من الحيات ما لرؤوسه أعراف ، قال الراجز يشبه امرأته بحية منها :
عَنْجَرِدٌ تَحلف حينَ أحلف ... كمثل شيطاننِ الحَمَاط أعْرَفُ
الحماط : جمع حَمَاطة بفتح الحاء : شجر تكثر فيه الحيات ، والعنجرِد بكسر الراء : المرأة السليطة .
وهذه الصفات التي وصفت بها شجرة الزقوم بالغة حداً عظيماً من الذم وذلك الذم هو الذي عبّر عنه بالملعونة في قوله تعالى : { والشجرة الملعونة في القرآن } في سورة [ الإِسراء : 60 ] ، وكذلك في آية { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم } في سورة [ الدخان : 43 - 46 ] .
( وقد أنذروا بأنهم آكلون منها إنذاراً مؤكداً ، أي آكلون من ثمرها وهو ذلك الطلع . وضمير { منها } للشجرة جرى على الشائع من قول الناس أكلت من النخلة ، أي من ثمرها . والمعنى : أنهم آكلون منها كرهاً وذلك من العذاب ، وإذا كان المأكول كريهاً يزيده كراهة سوءُ منظره ، كما أن المشتهَى إذا كان حسن المنظر كان الإِقبال عليه بِشَرَه لظهور الفرق بين تناول تفاحة صفراء وتناول تفاحةَ مورّدة اللون ، وكذلك محسنات الشراب ، ألاَ ترَى إلى كعب بن زهير كيف أطال في محسنات الماء الذي مزجت به الخمر في قوله :
شُجَّت بذي شَبَم من ماء مَجْنيَة ... صاففٍ بأبطحَ أضحَى وهو مشمول
تنفي الرياح القذَى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيضٌ يعاليل
ومَلْءُ البطون كناية عن كثرة ما يأكلون منها على كراهتها . وإسناد الأكل ومَلْءِ البطون إليهم إسناد حقيقي وإن كانوا مكرهين على ذلك الأكل والملْءِ . والفاء في قوله : { فَمَالِئُونَ } فاء التفريع ، وفيها معنى التعقيب ، أي لا يلبثون أن تمتلىء بطونهم من سرعة الالتقام ، وذلك تصوير لكراهتها فإن الطعام الكريه كالدواء إذا تناوله آكله أسرع ببلعه وأعظم لقمه لئلا يستقر طعمه على آلة الذوق .