تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 37 من سورة ص
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) و { الشياطين } جمع شيطان ، وحقيقته الجنّي ، ويستعمل مجازاً للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله . ومنه قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيراً خارقاً للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء ، وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب الأمم فكانوا يأتون طوعاً للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبأ .
فيجوز أن يكون { الشياطين } مستعملاً في حقيقته ومجازه .
و { كُلَّ بناءٍ } بدل من { الشَيَاطِينَ } بدل بعض من كل ، أي كل بنّاء وغوّاص منهم ، أي من الشياطين . و { كُلَّ } هنا مستعملة في معنى الكثير ، وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح ، قال تعالى : { ولو جاءتهم كل آية } [ يونس : 97 ] وقال : { ثم كلي من كل الثمرات } [ النحل : 69 ] . وقال النابغة
: ... بها كلُّ ذَيَّال وخنساءَ ترعوي
وتقدم عند قوله تعالى : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة [ الأنعام : 25 ] .
والبنَّاء : الذي يَبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نَجَّار وقصَّار وحدَّاد .
والغواص : الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ ، وهو أيضاً مما صِيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة ، قال النابغة
: ... أو درّة صدفية غوَّاصها
بَهج مَتَى يَرها يَهِلَّ ويَسْجُدِ ... قال تعالى : { ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك } [ الأنبياء : 82 ] .
وقد بلغت الصناعة في مُلك سليمان مبلغاً من الإِتقان والجودة والجلال ، وناهيك ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سُمي في الإِسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من مواد إقامته من الممالك المجاورة له ، وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبَأ .