تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 46 من سورة ص
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وجملة { إنَّا أخلصناهُم } علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير . و { أخْلَصْناهُم } : جعلناهم خالصين ، فالهمزة للتعدية ، أي طهرناهم من درَن النفوس فصارت نفوسهم نقية من العيوب العارضة للبشر ، وهذا الإِخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوءة .
والعصمة : قوة يجعلها الله في نفس النبي تَصْرِفُه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمداً أو سهواً ، وعمّا هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره . وأركان العصمة أربعة :
الأول : خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان .
الثاني : حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات .
الثالث : تأكد ذلك العلم بتتابع الوحي والبيان من الله تعالى .
الرابع : العتاب من الله على ترك الأوْلى وعلى النسيان .
وإسناد الإِخلاص إلى الله تعالى لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بجعل خاص من الله تعالى وعناية لَدُنِيّة بحيث تنزع من النفس غلبة الهوى في كل حال وتصرف النفس إلى الخير المحض فلا تبقى في النفس إلا نزعات خفيفة تُقلع النفس عنها سريعاً بمجرد خطورها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لُيَغَانُ على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» .
والباء في { بخالصةٍ } للسببية تنبيهاً على سبب عصمتهم . وعبر عن هذا السبب تعبيراً مجملاً تنبيهاً على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه ، ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل { أخلصناهم } على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن اقْتناعه من أكل لحم الضبّ " أني تحضرني من اللَّه حاضرة "
أي حاضرة لا توصف ، ثم بُيّنت هذه الخالصة بأقصى ما تعبر عنه اللغة وهي أنها { ذِكرى الدَّارِ } .
والذكرى : اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرّجعى والبُقيا لأن زيادة المبنَى تقتضي زيادة المعنى . والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة ، أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا ، فالدار التي هي محلّ عنايتهم هي الدار الآخرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " فأقول مَا لي وللدنيا " . وأشار قوله تعالى : { بخالصةٍ ذكرى الدَّارِ } إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإِلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحذر من المعصية وحبُّ الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نُهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبيء يكره بها المعاصي ، فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف ، وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا : العصمة عدم خَلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية ، وقوللِ المعتزلة : إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي ، فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية ، وبه يظهر أيضاً أن العصمة لا تنافي التكليف وترتَّب المدححِ على الطاعات .
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر «خالصة» بدون تنوين لإِضافته إلى { ذكرى الدارِ } والإضافة بيانية لأن { ذِكرى الدَّارِ } هي نفس الخالصة ، فكأنه قيل : بذكرى الدار ، وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله ، وإنما ذكر لفظ «خالصة» ليقع إجمال ثم يفصل بالإِضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا إليه . والتعريفُ بالإِضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام . وقرأ الجمهور بتنوين «خالصةً» فيكون { ذكرى الدار } عطف بيان أو بدلاً مطابقاً . وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر . وإضافة «خالصة» إلى { ذِكرى الدَّارِ } في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف . ويجوز أن يكون { ذِكرى } مرادف الذكر بكسر الذال ، أي الذكر الحسن ، كقوله تعالى : { وجعلنا لهم لسان صدق علياً } [ مريم : 50 ] وتكون { الدَّارِ } هي الدار الدنيا . ويجوز أن يكون مرادفاً للذُّكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين . و { الدار } : الدار الآخرة .