تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 16 من سورة الزمر
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } .
بدل اشتمال من جملة { ألا ذَلِكَ هو الخسرانُ المبينُ } [ الزمر : 15 ] ، وخص بالإِبدال لأنه أشد خسرانهم عليهم لتسلطه على إهلاك أجسامهم . والخسران يشتمل على غير ذلك من الخزي وغضب الله واليأس من النجاة . فضمير { لهم } عائد إلى مجموع { أنفُسَهُم وأهْلِيهِم } [ الزمر : 15 ] .
والظلل : اسم جمع ظلة ، وهي شيء مرتفع من بناء أو أعواد مثل الصُّفَّة يستظل به الجالس تحته ، مشتقة من الظلّ لأنها يكون لها ظِلّ في الشمس ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } في سورة [ البقرة : 210 ] ، وقوله : { وإذا غشيهم موج كالظلل } في سورة [ لقمان : 32 ] . وهي هنا استعارة للطبقة التي تعلو أهل النار في نار جهنم بقرينة قوله : { مِنَ النَّارِ } ، شبهت بالظلة في العلوّ والغشيان مع التهكم لأنهم يتمنون ما يحجب عنهم حرّ النار فعبر عن طبقات النار بالظّلَل إشارة إلى أنهم لا واقي لهم من حر النار على نحو تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، وقوله { لهم } ترشيح للاستعارة .
وأما إطلاق الظلل على الطبقات التي تحتهم فهو من باب المشاكلة ولأن الطبقات التي تحتهم من النار تكون ظللاً لكفار آخرين لأن جهنم دركات كثيرة .
{ ظُلَلٌ ذلك يُخَوِّفُ الله بِهِ } .
تذييل للتهديد بالوعيد من قوله تعالى : { قُل إنَّ الخاسرين الذين خسِرُوا أنفسهم } [ الزمر : 15 ] الآية ، أو استئناف بياني بتقدير سؤال يخطر في نفس السامع لوصف عذابهم بأنه ظلل من النار من فوقهم وظلل من تحتهم أن يقول سائل : ما يقع إعداد العذاب لهم في الآخرة بعد فوات تدارك كفرهم؟ فأجيب بأن الله جعل ذلك العذاب في الآخرة لتخويف الله عباده حين يأمرهم بالاستقامة ويشرع لهم الشرائع ليعلموا أنهم إذا لم يستجيبوا لله ورسله تكون ذلك عاقبتهم . ولما كان وعيد الله خبراً منه ولا يكون إلا صدقاً حقق لهم في الآخرة ما توعدهم به في الحياة وتخويف الله به معناه أنه يخوفهم بالإِخبار به وبوصفه ، أما إذاقتهم إياه فهي تحقيق للوعيد .
ويعلم من هذا بطريق المقابلة جعل الجنة لترغيب عباده في التقوى ، إلا أنه طوى ذكره لأن السياق موعظة لأهل الشرك فالله جعل الجنة وجهنم إتماماً لحكمته ومراده من نظام الحياة الدنيا ليكون الناس فيها على أكمل ما ترتقي إليه النفس الزكية . والظاهر أن الجنة جعلها الله مسكناً لأهل النفوس المقدسة من الملائكة والناس مثل الرسل فلذلك هي مخلوقة من قبل ظهور التكليف ، وأما جهنم فيحتمل أنها مقدمة وهو ظاهر حديث : «اشتكت النار إلى ربها فقالت : أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنَفَسَيْن نفس في الشتاء ونفس في الصيف» . ويحتمل أنها تخلق يوم الجزاء ويتأول الحديث .
وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى ما وصف من الخسران والعذاب بتأويل المذكور .
والتخويف : مصدر خوفه ، إذا جعله خائفاً إذا أراه ووصف له شيئاً يثير في نفسه الخوف ، وهو الشعور بما يؤلم النفس بواسطة إحدى الحواس الخمس .
والعباد المضاف إلى ضمير الجلالة في الموضعين هنا يعمّ كل عبد من الناس من مؤمن وكافر إذ الجميع يخافون العذاب على العصيان ، والعذاب متفاوت وأقصاه الخلود لأهل الشرك ، وليس العباد هنا مراداً به أهل القرب لأنه لا يناسب مقام التخويف ولأن قرينة قوله : { عِبَادَهُ } تدل على أن المنادَيْن جميع العباد ، ففرق بينه وبين نحو { يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم } [ الزخرف : 68 ] .
( ه4س39ش16ن14/ن15-->عِبَادَهُ ياعباد }
تفريع وتعقيب لِجملة { ذلك يُخوّفُ الله بهِ عِبَادَه } لأن التخويف مؤذن بأن العذاب أعد لأهل العصيان فناسب أن يعقب بأمر الناس بالتقوى للتفادي من العذاب .
وقدم النداء على التفريع مع أن مقتضى الظاهر تأخيره عنه كقوله تعالى : { واتقون يا أولي الألباب } في سورة [ البقرة : 197 ] لأن المقام هنا مقام تحذير وترهيب ، فهو جدير باسترعاء ألباب المخاطبين إلى ما سيرد من بعد من التفريع على التخويف بخلاف آية البقرة فإنها في سياق الترغيب في إكمال أعمال الحج والتزود للآخرة فلذلك جاء الأمر بالتقوى فيها معطوفاً بالواو .
وحذفت ياء المتكلم من قوله : { يا عِبادِ } على أحد وجوه خمسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم .