تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 142 من سورة النساء
استئناف ابتدائي ، فيه زيادة بيان لمساويهم . والمناسبةُ ظاهرة . وتأكيد الجملة بحرف ( إنّ ) لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله : { وهو خادعهم } .
وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة ( 9 ) عند قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } وزادت هذه الآية بقوله : وهو خادعهم } أي فقابلهم بمثل صنيعهم ، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعاً لله تعالى ، كان إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم ، وإنذارهُ المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم ، وتقديرُ أخذه إيّاهم بأخَرَة ، شبيهاً بفعل المخادع جزءاً وفاقاً . فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم أستعارة تمثيلية ، وحسنَّتَهْا المشاكلة؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار . فالمشاكلة ترجع إلى التلميح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقةٌ بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلاّ محاكاة اللفظ ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقَعْمَق .
قالوا :
اقترْحْ شيئاً نجد لك طبخه ... قلتُ : أطبخوا لي جُبَّةً وقَميصاً
و«كُسالى» جمع كسلان على وزن فُعالى ، والكَسلان المتّصف بالكسل ، وهو الفتور في الأفعال لسآمةٍ أو كراهية . والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها ، فلذلك كان من شيم المنافقين . ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة ، ففي الحديث " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يَمَلُّ حتّى تَمَلّوا " . ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته ، وعن الصلاة عند حضور الطعام ، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بَشَرهٍ وعزم ، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيباً حتّى تتمكّن منها الكراهِية ، ولا خطَر على النفس مثلُ أن تكره الخير .
و«كسالى» حال لازمة من ضمير { قاموا } ، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جواباً ل«إذا» التي شرطها «قاموا» ، لأنّه لو وقع مجرّداً لكان الجواب عين الشرط ، فلزم ذكر الحال ، كقوله تعالى : { وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقول الأحوص الأنصاري :
فإذا تَزُولُ تَزُولُ عن مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوادره على الأقران
وجملة { يراءَون الناس } حال ثانية ، أو صفة ل ( كسالى ) ، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل : ماذا قَصْدُهم بهذا القيام للصلاة وهلاّ تركوا هذا القيام من أصله ، فوقع البيان بأنّهم يُراءون بصلاتهم الناس . { ويُراءون } فعل يقتضي أنّهم يُرون الناس صلاتهم ويُريهم الناس . وليس الأمر كذلك ، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة ، وهذا كثير في باب المفاعلة .
وقوله : { ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً } معطوف على { يُراءُون } إن كان { يراءون } حالاً أو صفة ، وإن كان { يراءون } استئناف فجملة { ولا يذكرون } حال ، والواو واو الحال ، أي : ولا يذكرون الله بالصلاة ألاّ قليلاً .
فالاستثناء إإمّا من أزمنة الذكر ، أي إلاّ وقتاً قليلاً ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذٍ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإمّا من مصدر { يذكرون } ، أي إلاّ ذكراً قليلاً في تلك الصلاة التي يُراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسْبيححِ الركوع ، وقراءةِ ركعات السرّ . ولك أن تجعل جملة { ولا يذكرون } معطوفة على جملة { وإذا قاموا } ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلاّ حالا قليلاً أو زمناً قليلاً وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره ، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال ، ويكثرون من ذكره ، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرَهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه .