تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 157 من سورة النساء

أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه : هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين .
والمسيح كان لَقباً لعيسى عليه السلام لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه : لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك ، كما تقدّم في قوله تعالى : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } في سورة آل عمران ( 45 ) ، وهو لقب قصدوا منه التهكّم ، فصار لقباً له بينهم . وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له . ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم ، قالت امرأة أبي لهب : مذمَّماً عصينا ، وأمره أبينا . فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم ، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد .
وقوله : رسول الله } إن كان من الحكاية : فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك ، فيكون نصبُ { رسول الله } على المدح ، وإن كان من المحكي : فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم ، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم { يَأيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون } [ الحجر : 6 ] وقول أهل مدين لشعيب
{ أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد } [ هود : 87 ] فيكون نصب «رسول الله» على النعت للمسيح .
وقوله { وما قتلوه } الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال ، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه ، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة ، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم ، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم ، ويكون تجريده من المؤكّدات : إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون ، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد ، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد .
وعطف { وما صلبوه } لأنّ الصلب قد يكون دون القتل ، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيباً له ثم عفوا عنه ، وقال تعالى : { إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله . . . أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا } [ المائدة : 33 ] . والمشهور في الاستعمال : أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم ، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه .
وجملة { ولكن شبَّه لهم } استدراك ، والمستدرك هو ما أفاده { وما قتلوه } من كون هذا القول لا شبهة فيه . وأنَّه اختلاق محض ، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه ، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح ، وهي ما رَأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح ، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه .
وقوله : { شبّه لهم } يحتمل أن يكون معناه : أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه ، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل ، فيكون قوله : { شبِّه } فعلاً مبْنيّاً للمجهول ، مشتقّاً من الشبه ، وهو المماثلة في الصورة . وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل ( شبّه ) للدلالة فعل ( شبّه ) عليه؛ فالتقدير : شبِّه مشبَّه فيكون «لهم» نائباً عن الفاعل . وضمير ( لهم ) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا : { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم } وهم يهود زمانه ، أي وقعت لهم المشابهة ، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول : حصل لي ظنّ بكذا . والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال . ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح ، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق ، فيكون من باب قول العرب : خُيِّل إليك ، واختُلِط على فلان . وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق ، واللام على هذا لام الأجل : أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم ، أي لتضليلهم ، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم .
أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي ، كقوله تعالى : { وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] . ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شُبّه معنى صُنع ، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم .
وفي الأخبار أنّ ( يهوذا الاسخريوطي ) أحد أصحاب المسيح ، وكان قد ضلّ ونافق ، هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهُو الذي ألْقَى الله عليه شبهَ عيسى ، وأنَّه الذي صُلب ، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين ، وهذا يلائم الاحتمال الأول .
ويقال : إنّ ( بيلاطس ) ، وَاليَ فلسطين ، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وَصَلبه فأجاب بأنّه لا عِلم له بشيء من هذه القضية ، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه ، ولم يقع ، وإنَّما اختلق اليهود خبره ، وهذا يلائم الاحتمال الثاني .
والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن : أنّ المسيح لم يُقتل ، ولا صُلب ، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه ، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل . وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى : { إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ } في سورة آل عمران [ 55 ] وقوله : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح . والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين : فجمهورهم يقولون : قتلته اليهود ، وبعضهم يقول : لم يقتله اليهود ، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح ، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتاباً محرّفاً فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه ، بل يخالج أنفسهم الشكّ ، ويتظاهرون باليقين ، وما هو باليقين ، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ . فالمراد بالظنّ هنا : معنى الشكّ ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب ، وفي القرآن { إنّ بعض الظنّ إثم } [ الحجرات : 12 ] ، وفي الحديث الصحيح : « إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث » فالاستثناء في قوله { إلاّ اتّباع الظنّ } مُنقطع ، كقول النابغة :
حَلفت يميناً غير ذي مثنوية ... ولا عِلْمَ إلاّ حُسنَ ظنّ بصَاحب
يجوزُ أن يكون معطوفاً على قوله : { وما قتلوه وما صلبوه } ويجُوز أن يعطف على قوله : { مالهم به من علم } .
واليقين : العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ ، فهو اسمُ مصدر ، والمصدر اليَقَن بِالتحريك ، يقال : يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا ، وهو مصدر قليل الاستعمال ، ويقال : أيقن يُوقن إيقاناً ، وهو الشائع .
وقوله { يقيناً } يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله : لأنّ مضمون : { وما قتلوه يقينا } بعد قوله : { وقولهم إنّا قتلنا المسيح } إلى قوله { وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم } يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن ، فصحّ أن يكون يقيناً مؤكّداً لهذا المضمون .
ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في { قتلوه } ، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه ، ويكون النفي منصبّاً على القيد والمقيّد معاً ، بقرينة قوله قبله { ومَا قتلوه وما صلبوه } ، أي : هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه ، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته . وضمير النصب في { قتلوه } عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام .
ويجوز أن يكون القتل مستعملاً مجازاً في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم : قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها ، وقولهم : قَتَل أرضاً عالِمُها ، ومن شعر «الحماسة» في بَاب الهجاء :
يَروعك من سعدِ ابن عمرو جُسومها ... وتزهَد فيها حين تقتلُهَا خُبْراً
وقول الشاعر :
كذلِكَ تخبر عنهَا العالمات بها ... وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يَقَنا
وقول الآخر :
قتلتني الأيام حين قتلتها ... خبُرا فأبْصِرْ قَاتلاً مقتولاً
وضمير النصب في { قتلوه } عائد إلى العلم من قوله تعالى { ما لهم به من علم } ، فيكون { يقيناً } على هذا تمييزاً لنسبة ( قتلوه ) .