تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 34 من سورة النساء
استئناف ابتدائي لذكر تشريع في حقوق الرجال وحقوق النساء والمجتمع العائلي . وقد ذُكر عقب ما قبلَه لمناسبة الأحكام الراجعة إلى نظام العائلة ، لا سيما أحكام النساء ، فقوله : { الرجال قوامون على النساء } أصل تشريعي كُلِّيّ تتفرّع عنه الأحكام التي في الآيات بعده ، فهو كالمقدّمة .
وقوله : { فالصالحات } تفريع عنه مع مناسبته لما ذكر من سبب نزول { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] فيما تقدّم .
والحكم الذي في هذه الآية حكم عامّ جيء به لتعليل شرع خاصّ .
فلذلك فالتعريف في { الرجال } و { النساء } للاستغراق ، وهو استغراق عرفي مبني على النظر إلى الحقيقة ، كالتعريف في قول الناس «الرجل خير من المرأة» ، يؤول إلى الاستغراق العرفي ، لأنّ الأحكام المستقراة للحقائق أحكام أغلبية ، فإذا بني عليها استغراق فهو استغراق عرفي . والكلام خبر مستعمل في الأمر كشأن الكثير من الأخبار الشرعية .
والقَوَّام : الذي يقوم على شأن شيءٍ ويليه ويصلحه ، يقال : قَوَّام وقَيَّام وقَيُّوم وقَيِّم ، وكلّها مشتقّة من القيام المجازي الذي هو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية ، لأنّ شأن الذي يهتمّ بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره ، فأطلق على الاهتمام القيامُ بعلاقة اللزوم . أو شُبِّه المهتم بالقائم للأمر على طريقة التمثيل . فالمراد من الرجال من كان من أفراد حقيقة الرجل ، أي الصنف المعروف من النوع الإنساني ، وهو صنف الذكور ، وكذلك المراد من النساء صنف الإناث من النوع الإنساني ، وليس المراد الرجال جمعَ الرجل بمعنى رَجُل المرأة ، أي زوجها؛ لعدم استعماله في هذا المعنى ، بخلاف قولهم : امرأةُ فلان ، ولا المراد من النساء الجمعُ الذي يطلق على الأزواج الإناث وإن كان ذلك قد استعمل في بعض المواضع مثل قوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ، بل المراد ما يدلّ عليه اللفظ بأصل الوضع كما في قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] ، وقول النابغة :
ولا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا ... يريد أزواجه وبناته وولاياه .
فموقع { الرجال قوامون على النساء } موقُع المقدّمة للحكم بتقديم دليله للاهتمام بالدليل ، إذ قد يقع فيه سوء تأويل ، أو قد وقع بالفعل ، فقد روي أنّ سبب نزول الآية قول النساء «ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشَرَكْناهم في الغزو» .
وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع ، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي ، ولذلك قال : { بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } أي : بتفضيل الله بعْضهم على بعض وبإنفاقهم من أموالهم ، إن كانت ( ما ) في الجملتين مصدرية ، أو بالذي فضّل الله به بعضهم ، وبالذي أنفقوه من أموالهم ، إن كانت ( ما ) فيهما موصولة ، فالعائدان من الصلتين محذوفان : أمّا المجرور فلأنّ اسم الموصول مجرور بحرف مثل الذي جُرَّ به الضمير المحذوف ، وأمّا العائد المنصوب من صلة { وبما أنفقوا } فلأنَّ العائد المنصوب يكثر حذفه من الصلة .
والمراد بالبعض في قوله تعالى : { فضل الله بعضهم } هو فريق الرجال كما هو ظاهر من العطف في قوله : { وبما أنفقوا من أموالهم } فإنّ الضميرين للرجال .
فالتفضيل هو المزايا الجبلية التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذبّ عنها وحراستها لبقاء ذاتها ، كما قال عَمرو بن كلثوم :
يَقُتْنَ جيادَنا ويقُلْن لستم ... بُعُولتنا إذا لَمْ تمنعونا
فهذا التفضيل ظهرت آثاره على مرّ العصور والأجيال ، فصار حقّا مكتسبا للرجال ، وهذه حجّة بُرهانية على كون الرجال قوّامين على النساء فإنّ حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرّة وإن كانت تقوى وتضعف .
وقوله : { وبما أنفقوا } جيء بصيغة الماضي للإيماء إلى أنّ ذلك أمر قد تقرّر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم ، فالرجال هم العائلون لنساء العائلة من أزواج وبنات . وأضيفت الأموال إلى ضمير الرجال لأنّ الاكتساب من شأن الرجال ، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث ، وذلك من عمل الرجال ، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارَة والأبنية ، ونحو ذلك ، وهذه حجّة خَطابية لأنّها ترجع إلى مصطلَح غالب البشر ، لا سيما العرب . ويَنْدُر أن تتولّى النساء مساعي من الاكتساب ، لكن ذلك نادر بالنسبة إلى عمل الرجل مثل استئجار الظئر نفسَها وتنمية المرأة مالاً ورثتْه من قرابتها .
ومن بديع الإعجاز صوغ قوله : { بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } في قالب صالح للمصدرية وللموصولية ، فالمصدرية مشعرة بأنّ القيامية سببها تفضيل من الله وإنفاق ، والموصولية مشعرة بأنّ سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين : عالمهم وجاهلهم ، كقول السموأل أو الحارثي :
سَلِي إن جَهِلْتتِ الناس عنّا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
ولأنّ في الإتيان ب ( بما ) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جَزَالةً لا توجد في قولنا : بتفضيل الله وبالإنفاققِ ، لأنّ العرب يرجّحون الأفعال على الأسماء في طرق التعْبير .
وقد روي في سبب نزول الآية : أنّها قول النساء ، ومنهن أمّ سلمة أمّ المؤمنين : « أتغزو الرجال ولا نغزو وإنّما لنا نصف الميراث » فنزل قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] إلى هذه الآية ، فتكون هذه الآية إكمالا لما يرتبط بذلك التمنّي . وقيل : نزلت هذه الآية بسبب سعد بن الربيع الأنصاري : نشزت منه زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فشكاه أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية في فور ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أردتُ شيئاً وأراد الله غيره ، ونقض حكمه الأول ، وليس في هذا السبب الثاني حديث صحيح ولا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّه ممّا رُوي عن الحسن ، والسدّي ، وقتادة .
والفاء في قوله : { فالصالحات } للفصيحة ، أي إذا كان الرجال قوّامين على النساء فمن المهمّ تفصيل أحوال الأزواج منهنّ ومعاشرتهنّ أزواجهنّ وهو المقصود ، فوصف الله الصالحات منهن وصفا يفيد رضاه تعالى ، فهو في معنى التشريع ، أي ليَكُنَّ صالحات . والقانتات : المطيعات لله . والقنوت : عبادة الله ، وقدّمه هنا وإن لم يكن من سياق الكلام للدلالة على تلازم خوفهنّ الله وحفظ حقّ أزواجهنّ ، ولذلك قال : { حافظات للغيب } ، أي حافظات أزواجهنّ عند غيبتهم . وعلّق الغيب بالحفظ على سبيل المجاز العقلي لأنّه وقته . والغيب مصدر غاب ضدّ حضر . والمقصود غيبة أزواجهنّ ، واللام للتعدية لضعف العامل ، إذ هو غير فِعل ، فالغيب في معنى المفعول ، وقد جعل مفعولا للحفظ على التوسّع لأنّه في الحقيقة ظرف للحفظ ، فأقيم مقام المفعول ليشمل كلّ ما هو مظنّة تخلّف الحفظ في مدّته : من كلّ ما شأنه أن يحرسه الزوج الحاضر من أحوال امرأته في عرضه وماله ، فإنّه إذا حضر يكون من حضوره وازعان : يزعها بنفسه ويَزعها أيضاً اشتغالها بزوجها ، أمّا حال الغيبة فهو حال نسيان واستخفاف ، فيمكن أن يبدو فيه من المرأة ما لا يرضي زوجها إن كانت غير صالحة أو سفيهة الرأي ، فحصل بإنابة الظرف عن المفعول إيجاز بديع ، وقد تبعه بشّار إذ قال :
ويصُون غَيْبَكُم وإن نَزَحا ... والباء في { بما حفظ الله } للملابسة ، أي حفظا ملابساً لما حفظ الله ، و ( ما ) مصدرية أي بحفظِ اللَّهِ ، وحفظُ اللَّه هو أمره بالحفظ ، فالمراد الحفظ التكليفي ، ومعنى الملابسة أنهنّ يحفظن أزواجهنّ حفظاً مطابقاً لأمر الله تعالى ، وأمرُ الله يرجع إلى ما فيه حقّ للأزواج وحدهم أو مع حقّ الله ، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة ، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه ، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم هندا بنت عتبة : أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدَها بالمعروف . لذلك قال مالك : إنّ للمرأة أن تُدْخِل الشهود إلى بيت زوجها في غيبته وتشهدهم بما تريد وكما أذن لهن النبي أن يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين .
وقوله : { والتي تخافون نشوزهن } هذه بعض الأحوال المضادّة للصلاح وهو النشوز ، أي الكراهية للزوج ، فقد يكون ذلك لسوء خلق المرأة ، وقد يكون لأنّ لها رغبة في التزوّج بآخر ، وقد يكون لقسوة في خُلق الزوج ، وذلك كثير . والنشوز في اللغة الترفّع والنهوض ، وما يرجع إلى معنى الاضطراب والتباعد ، ومنه نَشَزُ الأرض ، وهو المرتفع منها .
قال جمهور الفقهاء : النشوز عصيان المرأة زوجها والترفّع عليه وإظهار كراهيته ، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها ، أي بعد أن عاشرته ، كقوله : «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا» . وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضرب مرتّبا على هذا العصيان ، واحتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز ، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة .
وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الأباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس ، أو بعض القبائل ، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك ، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء ، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء ، قال عامر بن الحارث النمري الملقّب بجِرَاننِ العَوْد .
عَمِدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ ... ولَلْكَيْسُ أمضى في الأمور وأنجح
خُذا حَذراً يا خُلَّتيَّ فإنّني ... رأيتُ جران العَوْد قد كاد يصلح
والتحيْت : قشرّت ، أي قددت ، بمعنى : أنّه أخذ جلداً من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه ، يهدّدهما بأنّ السوط قد جَفّ وصلح لأن يضرب به .
وقد ثبت في «الصحيح» أنّ عمر بن الخطاب قال : ( كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدّبن بأدب نساء الأنصار ) . فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون وُلاة الأمور ، وكان سببه مجرّد العصيان والكراهِية دون الفاحشة ، فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعُدّون صدوره من الأزواج إضراراً ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة ، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلاّ بشيء من ذلك .
وقوله : { فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها مع ظهور أنّه لا يراد الجمع بين الثلاثة ، والترتيب هو الأصل والمتبادر في العطف بالواو ، قال سعيد بن جبير : يعظها ، فإن قبلت ، وإلاّ هجرها ، فإن هي قبلت ، وإلاّ ضربها ، ونُقل مثله عن علي .
واعلم أنّ الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز .
وقوله : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } احتمال ضمير الخطاب فيه يجري على نحوما تقدّم في ضمائر { تخافون } وما بعده ، والمراد الطاعة بعد النشوز ، أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة المعروفة . ومعنى : { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } فلا تطلبوا طريقاً لإجراء تلك الزواجر عليهنّ ، والخطاب صالح لكلّ من جعل له سبيل على الزوجات في حالة النشوز على ما تقدّم .
والسبيل حقيقتُه الطريق ، وأطلق هنا مجازاً على التوسّل والتسبّب والتذرّع إلى أخذ الحقّ ، وسيجيء عند قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } في سورة براءة ( 91 ) ، وانظر قوله الآتي { وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } .
و { عليهنّ } متعلّق ب ( سبيلا ) لأنّه ضمّن معنى الحكم والسلطان ، كقوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] .
وقوله : { إن الله كان علياً كبيراً } تذييل للتهديد ، أي إنّ الله عليٌّ عليكم ، حاكم فيكم ، فهو يعدل بينكم ، وهو كبير ، أي قويّ قادر ، فبوصف العلوّ يتعيّن امتثال أمره ونهيه ، وبوصف القدرة يُحذر بطشه عند عصيان أمره ونهيه .
ومعنى { تخافون نشوزهن } تخافون عواقبه السيّئة . فالمعنى أنّه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال ، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين ، لأنّ المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال ، ويزولان ، وبذلك يبقى معنى الخوف على حقيقته من توقّع حصول ما يضرّ ، ويكون الأمر بالوعظ والهجر والضرب مراتبَ بمقدار الخوف من هذا النشوز والتباسه بالعدوان وسوء النية .
والمخاطب بضمير { تخافون } إمَّا الأزواج ، فتكون تعْدية ( خاف ) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله ، نحو { فلا تخافوهم وخافون } [ آل عمران : 175 ] ويكون إسناد { فعظوهن واهجروهن واضربوهن } على حقيقته .
13 ) : { تؤمنون بالله ورسوله } إلى قوله : { وبشر المؤمنين } فإنّه جعل ( وبشّر ) عطفاً على ( تؤمنون ) أي فهو خطاب للجميع لكنّه لمّا كان لا يتأتّى إلاّ من الرسول خصّ به . وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال : لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها . قال ابن العربي : هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هنا أمر إباحة ، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي " ولن يضرب خياركم " . وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع ممّا رآه له ابن العربي : وهو أنّه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن ، ووافقه على ذلك جمع من العلماء ، قال ابن الفرس : وأنكروا الأحاديث المرويَّة بالضرب . وأقول : أو تأوّلوها . والظاهر أنّ الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا .
ولذلك يكون المعنى واللاتي تخافون نشوزهن } أي تخافون سوء مغبّة نشوزهنّ ، ويقتضي ذلك بالنسبة لولاة الأمور أنّ النشوز رفع إليهم بشكاية الأزواج ، وأنّ إسناد { فعظوهن } على حقيقته ، وأمّا إسناد { واهجروهن في المضاجع } فعلى معنى إذن الأزواج بهجرانهنّ ، وإسناد { واضربوهن } كما علمت .
وضمير المخاطب في قوله : { فإن أطعنكم } يجري على التوزيع ، وكذلك ضمير { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } .
والحاصل أنّه لا يجوز الهجر والضرب بمجرّد توقّع النشوز قبل حصوله اتّفاقاً ، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث ، وكان الأزواج مؤتمنين على توخّي مواقع هذه الخصال بحسب قوّة النشوز وقدره في الفساد ، فأمّا الوعظ فلا حدّ له ، وأمّا الهجر فشرطه أن لا يخرج إلى حدّ الإضرار بما تجده المرأة من الكمد ، وقد قدّر بعضهم أقصاه بشهر .
وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير ، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد؛ لأنّ المرأة اعتدَتْ حينئذ ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك ، يبيّن في الفقه ، لأنّه لو أطلق للأزواج أن يتولّوه ، وهم حينئذ يشْفُون غضبهم ، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذنب ، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة . بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار ، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضراراً . فنقول : يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها ، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب ، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج ، لا سيما عند ضعف الوازع .