تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 18 من سورة غافر
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
الأظهر أن يكون قوله : { وأنذِرْهم } وما بعده معترضاً بين جملة { إن الله سريع الحساب } [ غافر : 17 ] وجملة { يَعْلم خائِنة الأعيُن } [ غافر : 19 ] على الوجهين الآتيين في موقع جملة { يعلم خائنة الأعين } ، فالواو اعتراضية ، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة .
ويوم الآزفة يوم القيامة . وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزِف الأمر ، إذا قرب ، فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره : الساعة الآزفة ، أو القيامة الآزفة ، مثل الصاخّة ، فتكون إضافة { يوم } إلى { الآزفة } ، حقيقية . وتقدم القول في تعدية الإِنذار إلى ( اليوم ) في قوله : { لتنذر يوم التلاقي } [ غافر : 15 ] .
( و { إذْ } بدل من { يوم } فهو اسم زمان منصوب على المفعول به ، مضاف إلى جملة { القلوب لدى الحناجر } و { أل } في { القُلُوبُ } و { الحناجر } عوض عن المضاف إليه . وأصله : إذْ قلوبهم لدى حناجرهم ، فبواسطة ( أل ) عُوض تعريف الإِضافة بتعريف العهد وهو رَأي نحاة الكوفة ، والبصريون يقدرون : إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى : إذ قلوب الذين تنذرهم ، يعني المشركين ، فأمَّا قلوب الصالحين يومئذٍ فمطمئنة .
والقلوب : البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيًّا فتدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم .
والحناجر : جمع حَنْجَرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحُلقوم . ومعنى القلوب لدى الحناجر : أن القلوب يشتدّ اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهِده أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوبُ مواضعها صاعدة إلى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] .
وكاظم : اسم فاعل من كظَم كُظُوماً ، إذا احتبسَ نفَسُه ( بفتح الفاء ) . فمعنى { كاظمين } : اكنين لا يستطيعون كلاماً . فعلى هذا التأويل لا يقدَّر ل { كاظمين } مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم . ويقال : كَظَم كظماً ، إذا سَدّ شيئاً مجرى ماء أو باباً أو طريقاً فهو كاظم ، فعلى هذا يكون المفعول مقدراً . والتقدير : كاظمينها ، أي كاظمين حناجرهم إشفاقاً من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب . وانتصب { كاظمين } على الحال من ضمير الغائب في قوله : { أنذرهم } على أن الحال حال مقدرة . ويجوز أن يكون حالاً من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى : { فويل لهم مما كتبت أيديهم } [ البقرة : 79 ] وإنما الكاتبون هم بأيديهم .
وجملة { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع } في موضع بدل اشتمال من جملة { القُلُوب لدَى الحناجِر } لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم ليَشفعوا لهم عند الله فلا يُلفون صديقاً ولا شفيعاً . والحميم : المحب المشفق .
والتعريف في { الظالمين } للاستغراق ليعم كل ظالم ، أي مشرك فيشمل الظالمين المنذَرين ، ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإِظهار في مقام الإِضمار .
ووصْفُ : { شفيع } بجملة { يطاع } وصْف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له . وأُتبع { شفيع } بوصف { يطاع } لتلازمهما عرفاً فهو من إيراد نفي الصفة اللازمةِ للموصوف . والمقصودُ : نفي الموصوف بضرب من الكناية التلميحية كقول ابننِ أحمر
: ... ولا تَرى الضبَّ بها ينْجَحِرْ
أي لا ضبّ فيها فينجحر ، وذلك يفيد مفاد التأكيد .
والمعنى : أن الشفيع إذا لم يُطَع فليس بشفيع . والله لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا مَن يُطاع .