تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 12 من سورة فصلت
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{ طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِى يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وَحِفْظاً ذَلِكَ } .
تفريع على قوله : { فَقَالَ لَهَا وللأرْضضِ ائْتِيَا } [ فصلت : 11 ] .
والقضاء : الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم ، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع ، كقول أبي ذؤيب الهذلي
: ... وعليهما مسرودتان قَضاهما
دَاود أو صَنَعُ السوابغغِ تُبَّعُ ... وضَمير { فقضاهن } عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها ، وهذا تفنن . وانتصب { سَبْعَ سموات } على أنه حال من ضمير «قضاهن» أو عطف بيان له ، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل «قضاهن» لتضمين «قضاهن» معنى صيرهن ، وهذا كقوله في سورة البقرة ( 29 ) { فسواهن سبع سماوات } .
وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خُلقت فيها الأرض وما فيها . وقد بيَّنَّا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة . وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك . وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه ، وهو الذي قَرَّبه حكماء اليونان الأقدمون بما سَمَّوه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض ، وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض مَعلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر . وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولُّد المبطىء لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضاً { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] .
وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام ، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خِلواً من الخلْق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يومَ السبت يوم راحة للناس ودوابّهم اقتداء بإنْهَاءِ خلق العالَمين . وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد ، واسمه في العربية القديمة ( أَول ) وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين . والذي تشهد له الأخبار من السنة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع ، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها ، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع ، وأن الله هدى إليه المسلمين . قال النبي فهذا اليوم ( أي الجمعة ) هو اليوم الذي اختلفوا فيه فَهدانا الله إليه فالناسُ لنا فيه تبع اليهودُ غداً والنصارى بعد غدٍ . ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يومُ خلقه هو اليوم السابع .
وقد رَوى مسلم في صحيحه } عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت » . وقد ضعّفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كَعب الأحبار حدّث به أبَا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواةِ سنده فظنه مرفوعاً .
ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألمْمنَا بها هنا لئلا يعروَ التفسير عنها فيقع من يراها في غيرِهِ في حَيْرةٍ وإنما مقصد القرآن العِبرة .
{ يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح } .
{ وأوحى } عطف على { فقضاهن .
والوحي : الكلام الخفي ، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قوللٍ ، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكرياء { فأوحى إليهم } [ مريم : 11 ] أي أومأ إليهم بما يدل على معنى : سَبحوا بُكرة وعشياً . وقول أبي دُؤاد
: ... يَرمُون بالخُطب الطِّواللِ وتارةً
وَحْيَ الملاَحظ خيفةَ الرُّقَباء ... ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً } [ النحل : 68 ] أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه ، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] إلى قوله : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] .
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته ، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها ، وتقادير سير كواكبها ، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها ، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون ، قال تعالى : { وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] وقال : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] .
و { أمرها } بمعنى شأنها ، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها . وذلك مقابل قوله في خلق الأرض { وجعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } [ فصلت : 10 ] . وانتصب أمرها } على نزع الخافض ، أي بأمرها أو على تضمين أَوحَى معنى قدَّر أو أودَع .
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله : { وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح } تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله : { بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ } [ فصلت : 9 ] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا } ، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات ، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها .
والمصابيح : جمع مصباح ، وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفاً عن الصباح . والمراد بالمصابيح : النجوم ، استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها .
وانتصب { حفظاً } على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل { زيَّنَّا } . والتقدير : وجعلنَاها حفظاً . والمراد : حفظاً للسماء من الشياطين المسترقة للسمع . وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصّافات .
{ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز }
الإِشارة إلى المذكور من قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] إلى قوله : وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح وَحِفْظاً } . والتقدير : وضْع الشيء على مقدار معيَّن ، وتقدم نظيره في سورة يَس . وتقدم وجهُ إيثار وصفي { العَزِيزِ العَلِيمِ } بالذكر .