تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 49 من سورة فصلت
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) { مَّحِيصٍ * لاَّ يَسْھَمُ الانسان مِن دُعَآءِ الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } { قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِى } .
اعتراض بين أجزاء الوعيد . والمعنى : وعلموا ما لهم من محيص . وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذّبوا بقيام السّاعة فجملة { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } إلى قوله : { قنوط } تمهيد لجملة { ولئن أذقناه رحمةً منا } الخ . . .
وموقع هذه الآيات عقب قوله { ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك } [ فصلت : 47 ] الخ يقتضي مناسبة في النّظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأنّ الإنسان المخبر عنه بأنّه لا يسأمُ من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف النّاس الذين جرى ذِكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون ، فإمّا أن يكون المراد فريقاً من نوع الإنسان ، فيكون تعريف { الإنسان } تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممَثل له في علم المعاني بقولكَ : جمع الأمير الصاغة . وإمّا أن يكون المراد إنساناً معيناً من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد . كما أن الإخبار عن الإنسان بأنّه يقول : ما أظنّ الساعة قائمة ، صريح أن المخبر عنه من المشركين معيناً كان أو عاماً عموماً عرفياً . فقيل المراد بالإنسان : المشركون كلّهم ، وقيل أريد به مشرك معين ، قيل هو الوليد بن المغيرة ، وقيل عتبة بن ربيعة . وأيًّا مَّا كان فالإخبار عن إنسان كافر .
ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أنَّ إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومىء بأنّ للجبلة الإنسانية أثراً قوياً في الخُلُق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان . فأصل هذا الخُلق أمر مرتكز في نفس الإنسان ، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار ، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في مُعطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعاً ، وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضرّ فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه . فأما أنّ الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه : أنّه لا يكتفي ، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة ، وهي الملَل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفيُ السآمة عنه رمزٌ للاستعارة .