تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 34 من سورة الشورى

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) و { يوبقهن } : يهلكهن . والإيباق : الإهلاك ، وفعله وَبَق كوَعد . والمراد به هنا الغرق ، فيجوز أن يكون ضمير جماعة الإناثثِ عائداً إلى { الجواري } على أن يستعار الإيباق للإغراق لأنّ الإغراقَ إتلاف . ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الراكبين على تأويل معاد الضمير بالجماعات بقرينة قوله : { بما كسبوا } فهو كقوله : { وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق ليشهدُوا منافع لهم } [ الحج : 27 ] .
والباء للسببية وهو في معنى قوله : { وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] .
ويعف عن كثير } عطف على { يوبقهن } فهو في معنى جزاء للشرط المقدّر ، أي وإن يشأ يعفُ عن كثير فلا يوبقهم مع استحقاقهم أن يُوبَقوا . وهذا العطف اعتراض .
( 35 ) { كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فى ءاياتنا مَا لَهُمْ } .
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب برفع { ويعلمُ } على أنه كلام مستأنف . وقرأه الباقون بالنصب .
فأما الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر ويعقوب فمعناه أنه كلام أنُف لا ارتباط له بما قبله ، وذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب الله لأنه لما قال : { ومن آياته الجواري في البحر } [ الشورى : 32 ] صار المعنى : ومن آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر . والمشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعْراض والانصراف عن سماعها فهددهم الله بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم ، أي من عذابه ، فحُذف متعلق المحيص إبهاماً له تهويلاً للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله : ويعلم الذين يجادلون } خبَراً مراداً به الإنشاء والطلب فهو في قوة : وليعلمْ الذين يجادلون ، أو اعلموا يا من يجادلون ، وليس خبراً عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه .
وأما قراءة النصب فهي عند سيبويه وجمهور النحاة على العطف على فعللٍ مدخول للام التعليل ، وتضمَّن ( أنْ ) بعده . والتقدير : لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ . وسموا هذه الواو واو الصَّرفْ لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفاً على ما قبلها ، إلى أن يكون معطوفاً على فعل متصيَّد من الكلام ، وهذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما ، وتبعه في «الكشاف» ، وذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها ب ( أن ) مضمرة .
ويجوز أن يجعل الخبر مستعملاً في مقاربة المخبر به كقولهم : قد قامت الصلاة ، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يَحصل نُزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به ، وعلى هذا الوجه يكون إنذاراً بعقاب يحصل لهم قريب وهو عذاب السيف والأسْر يوم بدر .