تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 17 من سورة الدخان

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل مثلاً لحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، وجعل ما حلّ بهم إنذاراً بما سيحلّ بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويُسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم ، كما قال تعالى : { فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً } [ الزخرف : 8 ] فذكرها هنا تأييد للنبيء ووَعدٌ له بالنصر وحسننِ العاقبة ، وتهديدٌ للمشركين .
وهذا المثل وإن كان تشبيهاً لمجْمُوععِ الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبَّه أبو جهل بفرعون ، ويشبه أتباعه بملإِ فرعون وقومِه أو يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل . وقبولُ المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه .
وموقع جملة { ولقد فتنا } يجوز أن يكون موقع الحال فتكون الواوُ للحال وهي حال من ضمير { إنا منتقمون } [ الدخان : 16 ] . ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { إنا منتقمون } [ الدخان : 16 ] ، أي منتقمون منهم في المستقبل وانتقمنا من قوممِ فرعون فيما مضى .
وأشعر قولَه قبلَهم } أن أهل مكة سيُفتنون كما فُتِن قوم فرعون ، فكان هذا الظرف مؤذناً بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز ، والتقدير : إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون ، ومؤذناً بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر .
والمقصود تشبيه الحالة بالحالة ولكن عدل عن صَوغ الكلام بصيغة التشبيه والتمثيل إلى صوغه بصيغة الإخبار اهتماماً بالقصة وإظهاراً بأنها في ذاتها مما يهم العلمُ به ، وأنها تذكير مستقل وأنها غير تابعة غيرها . ولأن جملة { وجاءهم رسول كريم } عطفت على جملة { فتنا } أي ولقد جاءهم رسول كريم ، عطفَ مفصل على مجمل ، وإنما جاء معطوفاً إذ المذكور فيه أكثرُ من معنى الفتنة ، فلا تكون جملة { وجاءهم رسول كريم } بياناً لجملة { فتنا } بل هي تفصيل لقصة بعثة موسى عليه السلام .
والفَتن : الإيقاع في اختلال الأحوال ، وتقدم في قوله تعالى : { والفتنة أشدّ من القتل } في سورة البقرة ( 191 ) .
والرسول الكريم : موسى ، والكريم : النفيس الفائق في صنفه ، وتقدم عند قوله تعالى : { إِنَيَ أُلْقِيَ إليّ كتابٌ كريمٌ } في سورة النمل ( 29 ) ، أي رسول من خِيرة الرسل أو من خِيرة الناس .