تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 28 من سورة الجاثية
. وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) والخطاب في { ترى } لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين ، ويجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم والمضارع في { ترى } مراد به الاستقبال فالمعنى : وترى يومئذٍ .
والأمة : الجماعة العظيمة من الناس الذين يَجمعهم دين جاء به رسول إليهم .
و { جاثية } اسم فاعل من مصدر الجُثُوِّ بضمتين وهو البروك على الرُكبتين باستئفاز ، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض ، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع .
وظاهر كون { كتابها } مفرداً غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال ، فمعنى { تدعى إلى كتابها } تدعى لتعرض أعمالها على ما أُمرت به في كتابها كما في الحديث « القرآن حجةٌ لك أو عليك » وقيل : أريد بقوله : { كتابها } كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد ، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] ، وقال : { وَوضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه }
[ الكهف : 49 ] أي كل مجرم مشفق مما في كتابه ، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفاً باللام فقبل العمومَ . وأما آية الجاثية فعمومها بدليّ بالقرينة . فالمراد : خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] .
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراككِ به مقررة في أصول الدين ، وتقدمت عند قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } في سورة الإسراء ( 15 ) .
وقرأ الجمهور { كل أمة تدعى إلى كتابها } برفع { كل } على أنه مبتدأ و { تدعى } خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جُثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثوّ . وقرأه يعقوب بنصب { كلَّ } على البدل من قوله : { وترى كل أمة } . وجملة { تدعى } حال من { كل أمة } فأعيدت كلمة { كل أمة } دون اكتفاء بقوله { تدعَى } أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه للحساب ، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل : وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معاً مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل .
وجملة { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } بدل اشتمال من جملة { تدعى إلى كتابها } بتقدير قول محذوف ، أي يقال لهم اليوم تجزون ، أي يكون جزاؤكم على وفق أعْمالِكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات ، وهذا البدل وقع اعتراضاً بين جملة { وترى كل أمة جاثية } وجملة { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية : 30 ] الآيات .
وجملة { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } من مقول القول المقدّر ، وهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لتوقع سؤال من يقول منهم : ما هو طريق ثبوت أعمالها . والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة ، وإما إلى كُتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمين .