تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 4 من سورة الجاثية

. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وعطف جملة { وفي خلقكم } الخ على جملة { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه .
والبث : التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة . وتقدم البث في قوله تعالى : { وبث فيها من كل دابّة } في سورة البقرة ( 164 ) .
وعبر بالمضارع في { يبث } ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها . والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] .
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات . والرزق : القوت . وقد ذكر في آية سورة البقرة ( 164 ) { وما أنزل الله من السماء من ماء } وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة .
والمراد ب ( المؤمنين ) ، وب ( قوم يوقنون ) ، وب ( قوم يعقلون ) واحد ، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون ، أي يعلمون دلالة الآيات .
والمعنى : أن المؤمنين والذين يُوقنون ، أي يعلمون ولا يكابرون ، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً ، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً . فالمعنى : أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون ، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض .
وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب ، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوزام مترتبة بإدراك العقل . وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [ الجاثية : 6 ] استفهاماً إنكارياً بمعنى النفي .
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجهاً إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء ، وكان مقصوداً منه ابتداء إثباتٌ الوحدانية ، فهو أيضاً صالح لإقامة الحجة على المعَطِّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم . فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها ، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يُعدمها .
وقرأ الجمهور قوله : { آيات لقوم يوقنون } وقوله : { آياتٌ لقوم يعقلون } برفع { آيات } فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران . وتقدّر ( في ) محذوفة في قوله { واختلاف الليل والنهار } لدلالة أختها عليها التي في قوله : { وفي خلقكم } . والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد .
وقرأها حمزة والكسائي وخلف { لآيات } في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف { آياتٍ } الأول عطف على اسم { إنَّ } و { في خلقكم } عطف على خبر { إنّ } فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما { آيات لقوم يعقلون } فكذلك ، إلا أنه عطف على معمولي عَامِلَيْن مختلفين ، أي ليسا مترادفين هما ( إنّ ) و ( في ) على اعتبار أن الواو عاطفة { آيَات } وليست عاطفة جملة { في خلقكم } الآية ، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة ، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير ( في )