تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 21 من سورة محمد
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21(
واللام على هذا الوجه إما مزيدة ، أي أولاهم الله ما يكرهون فيكون مِثل اللام في قول النابغة :
سَقْيا ورعيا لذاك العَاتب الزّاري ... وإمّا متعلقة ب { أولى } على أنه فعل مضى ، وعلى هذا الاستعمال يكون قوله { طاعة وقول معروف } كلاماً مستأنفاً وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي طاعة وقول معروف خير لهم ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر طاعة ، وقول معروف ، أي أمر الله أن يطيعوا .
{ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الامر فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً } .
تفريع على وصف حال المنافقين من الهلع عند سماع ذكر القتال فإنه إذا جدّ أمر القتال ، أي حان أن يُندب المسلمون إلى القتال سيضطرب أمر المنافقين ويتسللون لِوَاذاً من حضور الجهاد ، وأن الأولى لهم حينئذٍ أن يخلصوا الإيمان ويجاهدوا كما يجاهد المسلمون الخلص وإلاّ فإنهم لا محيص لهم من أحد أمرين : إمّا حضور القتال بدون نية فتكون عليهم الهزيمة ويخسروا أنفسهم باطلاً ، وإمّا أن ينخزلوا عن القتال كما فعل ابنُ أُبَّيّ وأتباعُه يومَ أحُد .
و { إذا } ظرف للزمان المستقبل وهو الغالب فيها فيكون ما بعدها مقدراً وجوده ، أي فإذا جدّ أمر القتال وحدث .
وجملة { فلو صدقوا الله } دليل جواب { إذَا } لأن { إذا } ضمنت هنا معنى الشرط ، أي كذبوا الله وأخلفوا فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم ، واقتران جملة الجواب بالفاء للدلالة على تضمين { إذَا } معنى الشرط ، وذلك أحسن من تجريده عن الفاء إذا كانت جملة الجواب شرطية أيضاً .
والتعريف في { الأمر } تعريف العهد ، أو اللام عن المضاف إليه ، أي أمر القتال المتقدم آنفاً في قوله : { وذُكر فيها القتال } .
والعزم : القطع وتحقق الأمر ، أي كونه لا محيص منه . واستعير العزم للتعيين واللزوم على طريقة المكنية بتشبيه ما عُبر عنه بالأمر ، أي القتال برجل عزم على عمل مَّا وإثبات العزم له تخييلة كَإثْبَاتتِ الأظفار للمنية ، وهذه طريقة السكاكي في جميع أمثلة المجاز العقلي ، وهي طريقة دقيقة لكن بدون اطراد ولكن عندما يسمح بها المقام . وجعل في «الكشاف» إسناد العزم إلى الأمر مجازاً عقلياً ، وحقيقته أن يسند لأصحاب العزم على طريق الجمهور في مثله وهو هنا بعيد إذ ليس المعنى على حصول الجد من أصحاب الأمر ، ونظيره قوله تعالى :
{ إن ذلك من عزم الأمور } [ لقمان : 17 ] فالكلام فيها سواء .
ومعنى { صدقوا الله } قالوا له الصدق ، وهو مطابقة الكلام لما في نفس الأمر ، أي لو صدقوا في قولهم : نحن مؤمنون ، وهم إنما كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ أظْهروا له خلاف ما في نفوسهم ، فجعل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً على الله تفظيعاً له وتهويلاً لمغبته ، أي لو أخلصوا الإيمان وقاتلوا بنية الجهاد لكان خيراً لهم في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا خير العزة والحُرمة وفي الآخرة خير الجنة .
فهذه الآية إنْبَاء مما سيكون منهم حين يجد الجد ويَجيءُ أوان القتال وهي من معجزات القرآن في الإخبار بالغيب فقد عزم أمر القتال يوم أُحُد وخرج المنافقون مع جيش المسلمين في صورة المجاهدين فلما بلغ الجيش إلى الشوْط بينَ المدينة وأُحد قال عبد الله بن أُبَيّ بنُ سلول رأسُ المنافقين : ما ندري علامَ نَقْتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ ورجع هو وأتباعه وكانوا ثلث الجيش وذلك سنة ثلاث من الهجرة ، أي بعد نزول هذه الآية بنحو ثلاث سنين .
وقوله : { فلو صدقوا الله } جواب كما تقدم ، وفي الكلام إيجاز لأن قوله : { لكان خيراً } يؤذن بأنه إذا عزم الأمر حصل لهم ما لا خير فيه . ولفظ { خيراً } ضد الشَّرِ بوزن فَعْل ، وليس هو هنا بوزن أَفْعَلَ .