تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 3 من سورة المائدة

استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم } [ المائدة : 1 ] ، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام .
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها ، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا . وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها . وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير ، لاستيعاب محرّمات الحيوان . وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك ، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية ، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها ، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف . وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياساً ، وهو من قياس الأدْون ، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان { الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] . وهو قول أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه ، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : يَجوز أكل الخيل . وثبت في الصحيح ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ذبحنا فرساً على عهد رسول الله فأكلناه . ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ . وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل .
وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر . فقيل : لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة . وقيل : نهى عنها أبداً . وقال ابن عباس بإباحتها . فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة .
والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة ، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها . وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّاً بسبب العدوى ، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير ، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالباً مقدار ما مضى عليه في حالة الموت ، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها .
والدم هنا هو الدم المُهراق ، أي المسفوح ، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام ( 145 ) ، حَملاً لمطلققِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام ، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد ، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق .
والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة : لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه ، ولا تعرّض في الآية لذلك ، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها ، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد .
وقد كانت العرب تأكل الدم ، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه ، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء . وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم } في سورة البقرة ( 173 ) .
وإنَّما قال : ولحمَ الخنزير } ولم يقل والخنزير كما قال : { وما أهلّ لغير الله به } إلى آخر المعطوفات . ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير . ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر . وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة ( 173 ) . ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله . وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره ، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة ، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة . وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم « أيما إهاب دبغ فقد طهر » رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس . وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة ، منها مرض الديدان التي في المعدة .
{ وما أهلّ لغير الله به } هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله . والإهلالُ : الجهر بالصوتتِ ومنه الإهلال بالحجّ ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ ، ومنه استهلّ الصبي صارخاً . قيل : ذلك مشتقّ من اسم الهلال ، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر ، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته . وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم ، فقالوا : باسم اللاّت ، باسم العُزّى .
{ والمنخنقة } هي التي عرض لها ما يخنقها . والخَنْق : سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق ، أو بسدّه ، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها ، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها . ولذلك قيل هنا : المنخنقة ، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله { والموقوذة } ، فهذا مراد ابن عباس بقوله : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها .
وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله .
{ والموقوذة } : المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم ، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضرباً مثخِناً . وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة . وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة .
{ والمتردّية } : هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّياً تموت به ، والحكمة واحدة .
{ والنطيحة } فعيلة بمعنى مَفعولة . والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيواناً آخر . والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت . وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة ، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء .
{ وما أكل السبع } : أي بهيمة أكَلَها السبع ، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب ، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع ، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالباً بل بالضرب على المقاتل .
وقوله : { إلاّ ما ذكّيتم } استثناء من جميع المذكور قبله من قوله : { حرّمت عليكم الميتة } ؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها ، يرجع إلى جميعها عند الجمهور ، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي ، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها . وحيث كان المستثنى حالاً لا ذاتاً ، لأنّ الذكاة حالة ، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير ، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي ، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله . ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت ، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث ، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم ، وكذا ما أهِلّ لغير الله به ، لأنهم يهلّون به عند الذكاة ، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله ، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء : المنخنقة ، والموقوذة ، والتمردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك ، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة ، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها . والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة . وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى : { قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقاً أهلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئاً ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا ، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقاً . فعَضّوا على هذا بالنواجذ .
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة : فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة ، قبل الذبح أو النحر ، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكاً يدلّ على الحياة عرفاً ، وليس هو تحريك انطلاق الموت .
وهذا قول مالك في «الموطّأ» ، ورواية جمهور أصحابه عنه . وعن مالك : أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغاً أنْفِذَتْ معه مقاتلها ، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة ، لا تصحّ ذكاتها ، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة . وهذه رواية ابن القاسم عن مالك ، وهو أحد قولي الشافعي . ومن الفقهاء من قالوا : إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة ، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح . وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك ، واختاره ابن حبيب ، وأحد قولين للشافعي . ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة ، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل ، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح ، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة ، إلاّ أنّ يقال : إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن ، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات ، وهو بعيد . ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله : { وما أكل السبع } على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظراً إلى غلبة هذا الصنف بين العرب ، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيراً ، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة .
{ وما ذُبح على النُصب } هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب . والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب ، فهو مفرد مراد به الجنس ، وقيل : هو جمع وواحده نِصاب ، ويقال : نَصْب بفتح فسكون { كأنّهم إلى نَصْب يوفضون } [ المعارج : 43 ] . وهو قد يطلق بما يرادف الصنم ، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة ، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة ، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد . والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة ، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب . وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها ، فقد روى أيمَّة أخبار العرب : أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة ، وهم ولد إسماعيل ، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبةُ حجر ، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة ، فنصبوا هذه الأنصاب ، وربما طافوا حولها ، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم . وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة .
وعن أبي رجاء العطاردي في «صحيح البخاري» : كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً ( أي في بلاد الرمل ) جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به .
فالنصب : حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل : مِثل حجر الغَبْغَببِ الذي كان حول العُزّى . وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه ، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة ، قال الأعشى ، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه :
وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه ... وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة ، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ : { إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم } . وفي حديث فتح مكَّة : كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصباً ، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم . وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها ، تمييزاً بين ما ذُبِح تديّناً وبين ما ذبح للأكل ، فمن ذلك صخرة بيت المقدس ، قيل : إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح ، لأنَّها تسقط فيها الدماء ، والدمُ يسمّى رُوحاً . ومن ذلك فيما قيل : الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة . ومنها حجر المقام ، في قول بعضهم . فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ . وفي «البخاري» عن ابن عباس : النصُب : أنصاب يذبحون عليها . قلت : ولهذا قال الله تعالى : { وما ذبح على النصب } بحرف ( على ) ، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ ، وتذبح على الأنصاب ، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك .
ووجه عطف { وما ذُبح على النصب } على المحرّمات المذكورة هنا ، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام ، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام ، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام ، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام ، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة ، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم ، فقالوا : كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن ، وبخاصّة الصبيان ، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة : أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له : أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى ( صَنَممِ دوس ) . فقال : لا ، أنا ضامن ، فأسلمتْ ، ونحو ذلك ، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار ، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته .
ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله : { يأيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] الآيات .
{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام ذلكم فِسْقٌ } .
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات ، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله ، وهي المحرّم أكلها . فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام ، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة ، فتكون السين والتاء في { تستقسموا } مزيدتين كما هما في قولهم : استجاب واستراب . والمعنى : وأن تقسموا اللحم بالأزلام .
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله : هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ؟ . وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي أيضاً ، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه ، فتكون إرادته إدماجاً وتكون السين والتاء للطلب ، أي طلب القِسم . وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه ، أي طلب معرفته . كان العرب ، كغيرهم من المعاصرين ، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة ، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاماً . والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له : قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه .
وكيفية استقسام الميسر : المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه ، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية في سورة البقرة ( 219 ) . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وما استقسمتم عليه بالأزلام ، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى وأن تستقسموا بالأزلام } ، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما ، وذلك إدماج بديع .
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح : أحدها مكتوب عليه «أمرني ربّي» ، وربما كتبوا عليه «افْعَلْ» ويسمّونه الآمر . والآخرُ : مكتوب عليه «نَهاني ربّي» ، أو «لا تَفْعَلْ» ويسمّونه الناهي . والثالث : غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة . فإذا أراد أحدهم سَفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضارّاً ، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ ، فإذا خرج الذي عليه كتابة ، فعلوا ما رَسَم لهم ، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة . ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر ، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة ، صنم خَثْعَم ، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال :
لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا ... مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لم تَنْهَ عن قَتْللِ العُداة زُورا ... وقد ورد ، في حديث فتح مكة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال : " كذَبوا والله إننِ استقسمَ بها قطّ "
وهم قد اختلقوا تلك الصورة ، أو توهّموها لذلك ، تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام ، وتضليلاً للناس الذين يجهلون . وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم ، ومن حكّامهم ، وكان مِنها عند ( هُبَل ) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئاً من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم ، كتبوا على أحدها العقل في الديَة ، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم؛ وأزلام لإثبات النسب ، مكتوب على واحد «منكم» ، وعلى واحد «من غَيْركم» ، وفي آخر «مُلْصَق» . وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها . وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل ، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له : أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها . وكان الرجل قد يتّخذ أزلاماً لنفسه ، كما ورد في حديث الهجرة «أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره» .
والإشارة في قوله : { ذلكم فسق } راجعة إلى المصدر وهو { أن تستقسموا } . وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن .
والفسق : الخروج عن الدين ، وعن الخير ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } في سورة البقرة ( 26 ) .
وجعل الله الاستقسام فسقاً لأنّ منه ما هو مقامرة ، وفيه ما هو من شرائع الشرك ، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها ، إذ ليس الاستقسام سبباً عاديّاً مضبوطاً ، ولا سبباً شرعيّاً ، فتمحّض لأن يكون افتراء ، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفاً عن مراد الله بهم ، من الكذب على الله ، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسباباً عقليّة : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل ، أو من أدلّته ، كالتجربة ، وجعل أسباباً لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل : كجعل الزوال سبباً للصّلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان ، فمن أجل ذلك كان فسقاً ، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب .
وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب ، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة ، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم ، ومعنى عين أنها كثيرة المطر . وأمَّا أزلام الميسر ، فهي فسْق ، لأنَّها من أكل المال بالباطل .
اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .
جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة ، وبين آية الرخصة الآتِيَة : وهي قوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها . ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله : { حرّمت عليكم الميتة } الآية .
والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أنّ الله لمّا حرّم أموراً كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهِلّ لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر : وهو ما أهلّ به لِغير الله ، وما ذُبح على النُصُب . والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء . وذُكّروا بالنعمة ، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين . وكان المشركون ، زماناً ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين ، ويرجعوا إلى الشرك ، كما قال المنافقون { لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا } [ المنافقون : 7 ] . فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنَّها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، والقرطبي عن الضحّاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها . وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ .
ف { اليوم } يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام ، وظهر فيه من قوّة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شؤونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعاً لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة : يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد «أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم» . وقال صفوان بن أمية أو أخوه ، يوم هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين : «ألا بطل السحر اليوم» .
وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير " أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم "
و { اليوم } يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، ويجوز أن يجعل ( اليومَ ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال ، الصادق بطائفة من الزمان ، رَسخ اليأس ، في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك ، فإنّ العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، ( والأمس ) على الماضي ، و ( الغَد ) على المستقبل . قال زهير :
وأعْلَمُ عِلم اليوممِ والأمسسِ قبلَه ... ولكِنَّنِي عن عِلممِ مَا في غد عَمِي
يريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وَبالغد ما يستقبل ، ومنه قول زياد الأعجم :
رأيتُك أمسسِ خيرَ بني مَعَدّ ... وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِ
وأنت غَدا تزيد الخير خيراً ... كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمس
وفعل { يئس } يتعدّى ب ( مِن ) إلى الشيء الذي كان مرجوّاً من قبلُ ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول ( من ) التي هي لتعدية { يئس } على قوله { دينِكم } ، إنّما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه .
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : { فلا تَخشَوْهم } على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوّه . وفي الحديث : «ونُصِرْتُ بالرّعْب» . فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم ، فقال : { فلا تخشوهم واخشون } أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلاً من آثار انتصارات المسلمين ، يوماً فيوماً ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله : { اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم } ، وإنّ فريقاً لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئاً لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم ، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم .
وقد أفاد قوله : { فلا تخشوهم واخشون } مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طيّ إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ :
تَسيل على حدّ الظّبَاتتِ نفوسنا ... ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيل
ونظيره قوله الآتي { فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون } [ المائدة : 44 ] .
{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } .
إن كانت آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } بنحو العامين ، كما قال الضحّاك ، كانت جملة مستقلّة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين ، اعتقاداً وتشريعاً ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معاً يومَ الحجّ الأكبر ، عام حجّة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين .
وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب ، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يوماً واحداً ، وكانت هذه الجملة تعداداً لمنّة أخرى ، وكان فصلُها عن التي قبلها جارياً على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ { اليوم } ليتعلّق بقوله { أكملت } ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله : { يَئِسَ } فلم يقل : وأكملت لكم دينكم .
والدّين : ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله : { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء } [ النحل : 89 ] وقوله : { لتبيّن للناس ما نزّل إليهم } [ النحل : 44 ] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة ، كافياً في هدي الأمّة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافياً في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه ، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ . وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصاً ، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة ، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة .
فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي : «القرآن ، مع اختصاره ، جامع ولا يكون جامعاً إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية ، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وأنت تعلم : أنّ الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن ، إنَّما بيّنتها السُنَّة ، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة ، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريّات ، والحاجيات ، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة : وهو السنّة ، والإجماع ، والقياس ، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال : «لَعَن الله والوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله» فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : «لعنتَ كذا وكذا» فذكرَتْه ، فقال عبد الله : «وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله» ، فقالت المرأة : «لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف ، فما وجدتُه» ، فقال : «لئن كنتتِ قرأتيه لقد وجدتيه» : قال الله تعالى :
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] » اه .
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة ، المتلقّين عنه ، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتاباً في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أنّ أحداً قصر نفسه على علم القرآن فوجد { أقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] و { آتوا حقّه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] و { كُتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] و { أتِمّوا الحجّ والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة ، وأيضاً ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] .
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدىء ضعيفاً ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر ، وهو في ذلك كلّه دين ، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة ، ومعظم أهل المدينة ، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ ، فأصبح مرهوباً بأسُه ، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام ، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تَبيَّن واضحاً يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية .
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأنّ الدين في كلّ يوم ، من وقت البعْثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً فيوماً ، فمن كان من المسلمين آخذاً بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة . وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يُروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض ، وقد كمل أيضاً سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكّنه من قلب بلاد العرب . فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .
ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن : لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنَّها آخر آية نزلت ، وسورة { إذا جاء نصر الله } [ النصر : 1 ] كذلك ، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نحواً من تسعين يوماً ، يوحى إليه . ومعنى ( اليوم ) في قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } نظير معناه في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم .
وقوله : وأتممت عليكم نعمتي } إتمام النعمة : هو خلوصها ممّا يخالطها : من الحرج ، والتعب . وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة { أكملت لكم دينكم } فيكون متعلَّقاً للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلاً يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم ، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفاً ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله : { أكملت لكم دينكم } إلاّ على تأويلات بعيدة .
وظاهر العطف يقتضي : أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين ، وهي نعمة النصر ، والأخوّة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عامّ على خاصّ . وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحداً ، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في «معاني القرآن» :
إلى الملك القرم وابننِ الهما ... م وليثثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئاً لنفسه فيقول : رضيتُ بكذا ، وقد يرضى شيئاً لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدّى باللام : للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً " ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله : { لكم } وعُدّي { رَضيت } إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أنّ جملة { رضيت } معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام ديناً اليومَ . وإذ قد كان رضي الإسلام ديناً للمسلمين ثابتاً في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه ، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف ب { رضيت } ؛ فتأوّله صاحب «الكشاف» بأنّ المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله { اليوم } ، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به ديناً لهم يومئذٍ ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل ، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أنّ «رضيت» مجاز في معنى «أذنت» لعدم استقامة ذلك : لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله : { الإسلام } . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيراً في الدلالة على كون المخبِر عالماً به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .
وقد يدلّ قوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } على أنّ هذا الدين دين أبَدي : لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى .
{ فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه ، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب «الكشاف» ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضاً .
ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها : اتّصال الكلام الناشىء عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرّضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار ، أو في شدّة كَلَب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم .
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذناً بتوقّععٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف «من اضطرّ في مخمصة» عليه .
والأحسن عندي أن يكون موقع { فمن اضطرّ في مخمصة } متّصلاً بقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة ، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات : مرّة بوصفه في قوله { دينكم } ، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله : { نعمتي } ، ومرّة باسمه في قوله : { الإسلام } ؛ فقد تقرّر بينهم : أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله : { فمن اضطر } الخ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرّع على قوله : { ورضيتُ لكم الإسلام ديناً } وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة .
والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ثم اضطرّه إلى عذاب النار } في سورة البقرة ( 126 ) .
والمخمصة : المجاعة ، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن ، لأنّ الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث تغدو خِماصاً فتروح بِطَاناً .
والتجانف : التمايل ، والجَنَف : الميل ، قال تعالى : { فمن خَاف من موص جَنَفَا } [ البقرة : 182 ] الآية . والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين . وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائماً بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 ] ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين .
ووقع قوله : «فإنّ الله غفور رحيم» مغنياً عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن . والتقديرُ : فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] .