تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 47 من سورة الطور

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47(
جملة معترضة والواو اعتراضية ، أي وإن لهم عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وهو عذاب الجوع في سني القحط ، وعذاب السيف يوم بدر .
وفي قوله : { للذين ظلموا } إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : وإن لهم عذاباً جرياً على أسلوب قوله : { فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } [ الطور : 45 ] فخولف مقتضى الظاهر لإِفادة علة استحقاقهم العذاب في الدنيا بأنها الإِشراك بالله .
وكلمة { دون } أصلها المكان المنفصل عن شيء انفصالاً قريباً ، وكثر إطلاقه على الأقل ، يقال : هو في الشرف دونَ فلان ، وعلى السابق لأنه أقرب حلولاً من المسبوق ، وعلى معنى ( غير ( . و { دون } في هذه الآية صالحة للثلاثة الأخيرة ، إذ المراد عذابٌ في الدنيا وهو أقل من عذاب الآخرة قال تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } [ السجدة : 21 ] وهو أسبق من عذاب الآخرة لقوله تعالى : { دون العذاب الأكبر } ، وهو مغاير له كما هو بيّن .
ولكون هذا العذاب مستبعداً عندهم وهم يرون أنفسهم في نعمَة مستمرة كما قال تعالى : { ليقولن هذا لي } [ فصلت : 50 ] أُكد الخبر ب { إنّ } فالتأكيد مراعى فيه شكهم حين يسمعون القرآن ، كما دل عليه تعقيبه بقوله : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
والاستدراك الذي أفادته ( لكنَّ ( راجع إلى مفاد التأكيد ، أي هو واقع لا محالة ولكن أكثرهم لا يعلمون وقوعه ، أي لا يخطر ببالهم وقوعه ، وذلك من بطرهم وزهوهم ومفعول { لا يعلمون } محذوف اختصاراً للعمل به وأسند عدم العلم إلى أكثرهم دون جميعهم لأن فيهم أهْل رأي ونظر يتوقعون حلول الشر إذا كانوا في خير .
والظلم : الشرك قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وهو الغالب في إطلاقه في القرآن .