تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 11 من سورة الحديد
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
موقع هذه الجملة موقع التعليل والبيان لجملة { وكلاًّ وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] .
وما بينهما اعتراض ، والمعنى : أن مثل المنفق في سبيل الله كمثل من يُقرض الله ومَثَلُ الله تعالى في جزائه كمثل المستسلف مع من أحسن قرضه وأحسن في دفعه إليه .
و { من } استفهامية كما هو شأنها إذا دخلت على اسم الإشارة والموصول ، و { الذي يقرض } خبرها ، و { ذا } معترضة لاستحضار حال المقترض بمنزلة الشخص الحاضر القريب .
وعن الفراء : ( ذا ) صلة ، أي زائدة لمجرد التأكيد مثل ما قال كثير من النحاة : إن ( ذا ) في ( ماذا ) ملغاة ، قال الفراء : رأيتها في مصحف عبد الله { منذا الذي } والنون موصولة بالذال اه .
والاستفهام مستعمل في معنى التحريض مجازاً لأن شأن المحرِّض على الفعل أن يبحث عمن يفعله ويتطلب تعيينه لينوطه به أو يجازيه عليه .
والقرض الحسن : هو القرض المستكمل محاسن نوعه من كونه عن طيب نفس وبشاشة في وجه المستقرض ، وخلو عن كل ما يعرِّض بالمنة أو بتضييق أجل القضاء . والمشبّه هنا بالقرض الحسن هو الإِنفاق في سبيل الله المنهيُّ عن تركه في قوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } [ الحديد : 10 ] .
وقرأ الجمهور { فيضاعفه } بألف بعد الضاد . وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب { فيضعِّفه } بدون ألف وبتشديد العين .
والفاء في جملة { فيضاعفه له } فاء السببية لأن المضاعفة مسببة على القرض . وقرأ الجمهور فعل { يضاعفُه } مرفوعاً على اعتباره معطوفاً على { يقرض } . والمعنى : التحريض على الإِقراض وتحصيل المضاعفة لأن الإِقراض سبب المضاعفة فالعمل لحصول الإِقراض كأنه عمل لحصول المضاعفة .
أو على اعتبار مبتدأ محذوف لتكون الجملة اسمية في التقدير فيقع الخبر الفعلي بعد المبتدأ مفيداً تقوية الخبر وتأكيد حصوله ، واعتبارِ هذه الجملة جواباً ، ل ( مَن ) الموصولة بإشراب الموصول معنى الشرط وهو إشراب كثير في القرآن .
وقرأه حفص عن عاصم وابن عامر ويعقوب كل على قراءته بالنصب على جواب الاستفهام .
ومعنى { وله أجر كريم } : أن له أنفس جنس الأجور لأن الكريم في كل شيء هو النفيس ، كما تقدم في قوله تعالى : { إني ألقي إلي كتاب كريم } في سورة النمل ( 29 ) . وجعل الأجر الكريم مقابل القرض الحسن فَقُوبِل بهذا موصوف وصفته بمثلهما .
والمضاعفة : مماثلة المقدار ، فالمعنى : يعطيه مثلي قرضه .
والمراد هنا مضاعفته أضعافاً كثيرة كما قال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } الآية في سورة البقرة ( 261 ) .
وقال : { من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [ البقرة : 245 ] . وضمير النصب في { يضاعفه } عائد إلى القرض الحسن ، والكلام على حذف مضاف تقديره : فيضاعف جزاءه له . لأن القرض هنا تمثيل بحال السلف المتعارف بين الناس فيكون تضعيفه مثل تضعيف مال السلف وذلك قبل تحريم الربا .
والأجر : ما زاد على قضاء القرض من عطية يسديها المستسلف إلى من سلفه عندما يجد سعة ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم « خيركم أحسنكم قضاء » وقال تعالى : { وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً } [ النساء : 40 ] .
والظاهر أن هذا الأجر هو المغفرة كما في قوله تعالى : { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم } في سورة التغابن ( 17 ) . وهذا يشمل الإِنفاق في الصدقات قال تعالى : { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم } [ الحديد : 18 ] ، وهو ما فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم « والصدقة تطفىء الخطايا كما يطفىء الماء النار » أي زيادة على مضاعفتها مثل الحسنات كلها .