تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 14 من سورة الحشر
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
{ لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } [ الحشر : 13 ] ، لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصّن لقتالهم إياهم ، أي لا يقدرون على قتالكم إلاّ في هاته الأحوال والضمير المرفوع في { يقاتلونكم } عائد إلى { الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 11 ] .
وقوله : { جميعاً } يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً } [ المائدة : 48 ] فيكون للشمول ، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصنّة الخ .
ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين ، أي لا يقاتلونكم جيوشاً كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقبعون في قُراهم فيكون النفي منصّباً إلى هذا القيد ، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش ، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قراهم .
واستثناء { إلا في قرى } على الوجه الأول في { جميعاً } استثناء حقيقي من عموم الأحوال ، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصّنة الخ . وهو على الوجه الثاني في { جميعاً } استثناء منقطع لأن القتال في القرى ووراء الجدر ليس من أحوال قتال الجيوش المتساندين .
وعلى كلا الاحتمالين فالكلام يفيد أنهم لا يقاتلون إلا متفرقين كل فريق في قريتهم ، وإلا خائفين متَترِّسِينَ .
والمعنى : لا يهاجمونكم ، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة أو يقاتلونكم من وراء جُدر ، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار ، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ ما حورب قوم في عُقر دارهم إلا ذلُّوا كما قال عَلِيّ رضي الله عنه : وهذا إطلاع لهم على تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء .
و «الجُدُر» بضمتين في قراءة الجمهور جمع جدار . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو { جِدار } على الإِفراد ، والمراد الجنس تساوي الجمع .
و { محصنة } ممنوعة ممن يريد أخذها بأسوار أو خنادق .
و { قُرىً } بالقصر جمع قرية ، ووزنه وقصره على غير قياس لأن ما كان على زنة فَعْلَة معتل اللام مثل قرية يجمع على فِعال بكسر الفاء ممدوداً مثل : ركوة وركاء ، وشَكوة وشِكاء . ولم يسمع القصر إلا في كَوة بفتح الكاف لغة وكوى ، وقَرية وقُرى ولذلك قال الفراء : قُرىً شاذ ، يريد خارج عن القياس .
{ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ } .
استئناف بياني لأن الإِخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين .
فيجاب بأن بينهم بأساً شديداً وتدابراً ، فهم لا يتفقون .
وافتتحت الجملة ب { بأسهم } للاهتمام بالإخبار عنه بأنه { بينهم } ، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين ، وفي تهكم .
ومعنى { بينهم } أن مجال البأس في محيطهم فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم ، وهذا التركيب نظير قوله تعالى : { رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] .
وجملة { تحسبهم جميعاً } إلى آخرها استئناف عن جملة { بأسهم بينهم شديد } . لأنه قد يسأل السائل : كيف ذلك ونحن نراهم متفقين؟ فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد وهم في بواطنهم مختلفون فآراؤهم غير متفقة إلا إلفة بينهم لأن بينهم إحَناً وعداوات فلا يتعاضدون .
والخطاب لغير معيّن لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب ذلك . وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم . وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأياً متماثلاً في أصول مصالحهما المشتركة ، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها ، ولا تفرِّق جامعتها ، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإِحن والعداوات .
والقلوب : العقول والأفكار ، وإطلاق القلب على العقل كثير في اللغة .
وشتَّى : جمع شتيت بمعنى مفارق بوزن فَعْلَى مثل قتيل وقَتلى ، شبهت العقول المختلفة مقاصدها بالجماعات المتفرقين في جهات في أنها لا تتلاقى في مكان واحد ، والمعنى : أنهم لا يتفقون على حرب المسلمين .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من أن بأسهم بينهم ومن تشتت قلوبهم أي ذلك مسبب على عدم عقلهم إذ انساقوا إلى إرضاء خواطر الأحقاد والتشفي بين أفرادهم وأهملوا النظر في عواقب الأمور واتباع المصالح فأضاعوا مصالح قومهم .
ولذلك أقحم لفظ القوم في قوله { بأنهم قوم لا يعقلون } إيماء إلى أن ذلك من آثار ضعف عقولهم حتى صارت عقولهم كالمعدومة فالمراد : أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح .
وأوثر هنا { لا يعقلون } . وفي الآية التي قبلها { لا يفقهون } [ الحشر : 13 ] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوَهن والفتّ في ساعد الأمة معرفة «مشهورة» بين العقلاء . قال أحد بني نبهان يخاطب قومه إذ أزمعوا على حرب بعضهم
: ... وأن الحزامة أن تصرفوا
لحَي سِوانا صدورَ الأسل ... فإهمالهم سلوك ذلك جعلهم سواء مع من لا عقول لهم فكانت هذه الحالة شقوة لهم حصلت منها سعادة للمسلمين .
وقد تقدم غير مرة أن إسناد الحكم إلى عنوان قوم يؤذن بأن ذلك الحكم كالجبلّة المقومة للقومية وقد ذكرته آنفاً .