تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 163 من سورة الأنعام
وجملة : لا شريك له } حال من اسم الجلالة مصرّحة بما أفاده جمع التّوكيد مع لام الملك من إفادة القصر . والمقصود من الصّفة والحال الردّ على المشركين بأنَّهم ما أخلصوا عملهم للذي خلقهم ، وبأنَّهم أشركوا معه غيره في الإلهيّة .
وقَرأ نافع : { ومحياي } بسكون الياء الثّانية إجراء للوصل مُجرى الوقف وهو نادر في النّثر ، والرّواية عن نافع أثبتته في هذه الآية ، ومعلوم أنّ الندرة لا تُناكد الفصاحة ولا يريبك ما ذكره ابن عطيّة عن أبي عليّ الفارسي : «أنَّها شاذّة عن القياس لأنَّها جمعت بين ساكنين لأنّ سكون الألف قبل حرف ساكن ليس ممّا يثقل في النّطق نحو عصاي ، ورؤياي ، ووجه إجراء الوصل مجرى الوقف هنا إرادة التّخفيف لأنّ توالي يائين مفتوحتين فيه ثقل ، والألف النّاشئة عن الفتحة الأولى لا تعدّ حاجزاً فعدل عن فتح الياء الثّانية إلى إسكانها» . وقرأه البقيّة بفتح الياء وروي ذلك عن وَرش ، وقال بعض أهل القراءة أنّ نافعاً رجع عن الإسكان إلى الفتح .
وجملة : { وبذلك أمرت } عطف على جملة { إن صلاتي } إلخ . فهذا ممّا أمر بأن يقوله ، وحرف العطف ليس من المقول .
وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالمشار إليه .
وقوله : { وأنا أول المسلمين } مثل قوله : { وبذلك أمرت } خبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو لازم معناه ، يعني قبول الإسلام والثّبات عليه والاغتباط به ، لأنّ من أحبّ شيئاً أسرع إليه فجاءه أوّل النّاس ، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكّن والترجّح ، كما قال النّابغة
: ... سَبَقْتَ الرّجالَ الباهشين إلى العلا
كسَبْق الجواد اصطادَ قبل الطوارد ... لا يريد أنّه كان في المعالي أقدم من غيره لأنّ في أهل المعالي من هو أكبر منه سِنّاً ، ومن نال العلا قبل أن يولد الممدوح ، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من نوال العلا وأصبح الحائز له والثّابت عليه .
وفي الحديث : " نحن الآخِرون السّابقون يوم القيامة " . وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطّمع في التّنازل لهم في دينهم ولو أقَلّ تنازللٍ . ومن استعمال ( أوّل ) في مثل هذا قوله تعالى : { ولا تكونوا أول كافر به } كما تقدّم في سورة البقرة ( 41 ). وليس المراد معناه الصّريحَ لقلّة جدوى الخبر بذلك ، لأنّ كلّ داع إلى شيء فهو أوّل أصحابه لا محالة ، فماذا يفيد ذلك الأعداء والأتباعَ ، فإن أريد بالمسلمين الذين اتَّبعوا حقيقة الإسلام بمعنى إسلام الوجه إلى الله تعالى لم يستقم ، لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان مسلماً وكان بنوه مسلمين ، كما حكى الله عنهم إذ قال إبراهيم عليه السّلام : { فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] وكذلك أبناء يعقوب كانوا مسلمين إذ قالوا : { ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ].
وقرأ نافع وأبو جعفر بإثبات ألف «أنَا» إذا وقعت بعدها همزة ويجري مدّها على قاعدة المدّ ، وحذفَها الباقون قبل الهمزة ، واتَّفق الجميع على حذفها قبل غير الهمزة تخفيفاً جرى عليه العرب في الفصيح من كلامهم نحو : «أنا يُوسف» واختلفوا فيه قبل الهمزة نحو أنا أفعل ، وأحسب أنّ الأفصح إثباتها مع الهمز للتّمكّن من المدّ .