تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 88 من سورة الأنعام
استئناف بياني ، أي لا تعجبوا من هديهم وضلال غيرهم . والإشارة إلى الهُدى الّذي هو مصدر مأخوذ من أفعال الهداية الثلاثة المذكورة في الآية قبلها ، وخصوصاً المذكور آخراً بقوله { وهديناهم إلى صراط مستقيم } [ الأنعام : 87 ]. وقد زاد اسمُ الإشارة اهتماماً بشأن الهدي إذ جعل كالشيء المشاهد فزيد باسم الإشارة كمالُ تمييز ، وأخبِر عن الهدي بأنّه هدى الله لتشريف أمره وبيان عصمته من الخطأ والضلال ، وفيه تعريض بما عليه المشركون ممّا يزعمونه هدى ويتلقّونه عن كبرائهم ، أمثاللِ عَمْرو بن لُحَيّ الذي وضع لهم عبادة الأصنام ، ومثللِ الكهّان وأضرابهم . وقد جاء هذا الكلام على طريقة الفذلكة لأحوال الهداية الّتي تكرّر ذكرها كأبيات حاتم الطائي
: ... وللّهِ صُعلوك يُساوِر هَمَّهُ
ويمضي على الأحداث والدهرِ مُقدماً ... إلى أن قال بعد أبيات سبعة في محامد ذلك الصّعلوك
: ... فذَلك إنْ يهلِكْ فحسنى ثَناؤه
وإن عاش لم يقْعد ضعيفاً مذمَّماً ... وقوله تعالى : { يهدي به من يشاء من عباده } جملة في موضع الحال من { هُدى الله }.والمراد ب { من يشاء } الّذين اصطفاهم الله واجتباهم وهو أعلم بهم وباستعدادهم لهديه ونبذهم المكابرة وإقبالهم على طلب الخير وتطلّعهم إليه وتدرّجهم فيه إلى أن يبلغوا مرتبة إفاضة الله عليهم الوحيَ أو التّوفيق والإلهام الصادق . ففي قوله : { من يشاء } من الإبهام ما يبعث النّفوس على تطلّب هُدى الله تعالى والتّعرّض لنفحاته ، وفيه تعريض بالمشركين الّذين أنكروا نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم حسداً ، ولذلك أعقبه بقوله { ولو أشركوا لحَبِط عنهم ما كانوا يعملون } تفظيعاً لأمر الشرك وأنّه لا يغتفر لأحد ولو بلغ من فضائل الأعمال مبلغاً عظيماً مثل هؤلاء المعدودين المنوّه بهم . والواو للحال . و«حبط» معناه تلف ، أي بطل ثوابه . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } في سورة [ البقرة : 217 ].