تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 10 من سورة الجمعة
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قلت : وإيثار { ذكر الله } هنا دون أن يقول : إلى الصلاة ، كما قال : { فإذا قضيت الصلاة } لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة . وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة . وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلاّ في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر .
وفي حديث «الموطأ» «فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ولا شك أن الإِمام إذا خرج ابتدأ بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية . وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالاً على عِير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] .
ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة ، وبعد كون البيع وما قيس عليه منهياً عنه فقد اختُلف في فسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة . وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه ، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لِدليل . وقول مالك في «المدونة» : إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ .
وقال الشافعي : لا يفسخ . وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضاً .
وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة : ففي «العتيبة» عن ابن القاسم : لا يفسخ . ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجباً لفسخ المقيس . وكذلك قال أيمة المالكية : لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع .
وخطاب الآية جميعَ المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان . وشذ قوم قالوا : إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس : ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها .
و { مِن } في قوله : { من يوم الجمعة } تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه ، فنزّل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء .
ويجوز كون { مِن } للظرفية مثل التي في قوله تعالى : { أروني ماذا خلقوا من الأرض } [ فاطر : 40 ] ، أي فيها من المخلوقات الأرضية .
والإِشارة ب { ذلكم } إلى المذكور ، أي ما ذُكر من أمر بالسعي إليها ، وأمر بترك البيع حينئذٍ ، أي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات . فلفظ { خير } اسم تفضيل أصله : أخير ، حذفت همزته لكثرة الاستعمال . والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه . والمفضل : الصلاة ، أي ثوابها . والمفضل عليه : منافع البيع للبائع والمشتري .
وإنما أعقب بقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } تنبيهاً على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة ، وذكر الله . والأمر في { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } للإباحة .
والمراد ب { فضل الله } : اكتساب المال والرزق .
وأما قوله : { واذكروا الله كثيراً } فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصباباً ينسي ذكر الله ، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإِقبال على مرضاة الله تعالى .