تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 10 من سورة الطلاق
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) وجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } بدل اشتمال من جملة { وكان عاقبة أمرها خسراً } أو بدلَ بعض من كل .
والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيَّأ الشيء الذي لم يحصل .
وإن جعلتَ الحساب والعذاب المذكورين آنفاً حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفاً فجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } استئنافاً لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 30 ] .
.
( هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين } [ الطلاق : 1 ] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله : { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } .
وفي نداء المؤمنين بوصف { أولي الألباب } إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني ، ولأن فوائدها حقيقية دائمة ، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة ، قال تعالى :
{ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] ، وقوله : { أولي } معناه ذوي ، وتقدم بيانه عند قوله : { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] آنفاً و { الذين آمنوا } بدل من { أولي الألباب } . وهذا الاتباع يومىء إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم . والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها .
لله .
في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه .
وتأكيد الخبر ب { قدءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لِّيُخْرِجَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم
والذكر : القرآن . وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك ، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة [ الحجر : 6 ] . وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات ، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة .
وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم .
وقوله : رسولاً } بدل من { ذكراً } بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه ، فقد أُعمل فعل { أنزل } في { رسولاً } تبعاً لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر . وهذا كما أبدل { رسول من الله } [ البينة : 2 ] من قوله : { حتى تأتيهم البينة في سورة البينة ( 1 ) .
والرسول : هو محمد .
وأما تفسير الذكر بجبريل ، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال رسولاً } منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال ، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك ، وكذلك تفسير الذكر بجبريل .