تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 3 من سورة الملك

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) صفة ثانية للذي بيده الملك ، أعقب التذكيرُ بتصرف الله بخلق الإِنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإِنسان وهي السماوات ، ومفيدةٌ وصفاً من عظيم صفات الأفعال الإلهية ، ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجُملُ الثلاث جارية على طريقة واحدة .
والسماوات تكرر ذكرها في القرآن ، والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض ، كما تقدم عند قوله تعالى : { فسواهن سبع سماوات } [ سورة البقرة : 29 ] فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين ، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس .
والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وُصفت به السماوات للمبالغة ، أي شديدة المطابقة ، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام .
ويجوز أن تكون { طِباقاً } جمع طَبَق ، والطبَق المساوي في حالةٍ ما ، ومنه قولهم في المثَل : «وافَقَ شَنٌّ طبَقَه» .
والمعنى : أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق ، أو المعنى : أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرّك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا تَرْتَطِمُ ولا يتداخل سيرها .
وليس في قوله : { طباقاً } ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق ( فلا تَكُن طَبَاقاء ) .
وجاءت جملة { ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت } تقريراً لقوله : { خلق سبع سموات طباقاً } .
فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق ، أي التماثل . والمعنى : ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتاً . وأصل الكلام : ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمان من تفاوت فعبر بخلق الرحمان لتكون الجملة تذييلاً لمضمون جملة : { خلق سبع سماوات طباقاً } ، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها ، أي كانت السماوات طباقاً لأنها من خلق الرحمان ، وليس فيما خلق الرحمان من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات .
والتفاوت بوزن التفاعل : شدة الفَوت ، والفوت : البعد ، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة .
ويقال : تفوَّت الأمر أيضاً ، وقيل : إن تفوَّت ، بمعنى حصل فيه عيب .
وقرأ الجمهور { من تفاوت } . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { من تفوُّت } بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء ، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة .
وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس .
والخطاب لغير معين ، أي لا تَرى أيها الرائي تفاوتاً .
والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب ، وذلك مُمكن لكل من يبصر ، قال تعالى : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج } [ ق : 6 ] فكأنه قال : ما تَرون في خلق الرحمان من تفاوت ، فيجوز أن يكون { خلق الرحمان } بمعنى المفعول كما في قوله تعالى :
{ هذا خَلْق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } [ لقمان : 11 ] ، ويراد منه السماوات ، والمعنى : ما ترى في السماوات من تفاوت ، فيكون العدول عن الضمير لتتأتى الإضافة إلى اسمه { الرحمان } المشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس كما سيأتي .
ويجوز أن يكون { خلق } مصدراً فيشمل خلق السماوات وخلقَ غيرها فإن صنع الله رحمة للناس لو استقاموا كما صنع لهم وأوصاهم ، فتفيد هذه الجملة مفاد التذييل في أثناء الكلام على وجه الاعتراض ولا يكون إظهاراً في مقام الإِضمار .
والتعبير بوصف { الرحمان } دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم ، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سبباً لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق ، قال تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] وقال : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق } [ يونس : 5 ] .
وأيضاً في ذلك الوصف تورك على المشركين إذْ أنكروا اسمه تعالى : { الرحمان } { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً } [ الفرقان : 60 ] . وفرع عليه قوله : { فارجع البصر } الخ . والتفريع للتسبب ، أي انتفاء رؤية التفاوت ، جعل سبباً للأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوماً عن يقين دون تقليد للمخبِر .
ورَجْع البصر : تكريره والرجْع : العود إلى الموضع الذي يجاء منه