تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 6 من سورة القلم
بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
، فقوله تعالى : { بأيكم المفتون } معناه : أيُّ رجل ، أو أيُّ فريق منكم المفتون ، ف ( أي ) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل ( تُبصر ويبصرون ) أو متعلق به تعلقَ المجرور .
وقد تقدم استعمال ( أيّ ) في الاستفهام عند قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } في سورة { الأعراف : 185 ] .
والمفتون } : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة ، فيجوز أن يراد بها هنا الجُنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة ( يقولون للمجنون : فَتَنَتْهُ الجن ) ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلاً ، بإيثار هذا اللفظ ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجَّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين .
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكنْ في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة .
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله ، والأصل : أيّكم المفتونُ فهي كالباء في قوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى : في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون ، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضاً بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلاً معروفاً بين العقلاء مذكوراً برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة ، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل { المفتون } في الآية وصفاً ادعائياً على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله :
إذا تَرحَّلْت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالرَّاحلون هُمُو
ويجوز أن يكون { المفتون } مصدراً على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجَلْد؛ والميْسور لليسر ، والمعسورِ لضده ، وفي المثل «خُذ من ميْسوره ودَعْ معسوره» .
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على { المفتون } وهو مبتدأ .
يُضمن فعل ( تُبصر ويبصرون ) معنى : توقن ويوقنون ، على طريق الكناية بفعل الإِبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإِتيان بالباء للإِشارة إلى هذا التضمين . والمعنى : فستعلم يقيناً ويعلمون يقيناً بأيّكم المفتون ، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب ( يبصر ويُبصرون ) .