تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 116 من سورة الأعراف
وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يُلقوا سحرهم قبل موسى ، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم ، خلافاً لما في «الكشاف» وغيره ، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله : { ألْقُوا } استخفافٌ بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم ، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقعَ حجةٍ وأقطع معذرة ، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى عليه السلام إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر ، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغاً ، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهوراً ، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغاً في إقامة الحجة عليهم ، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك ، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها .
وقوله { فلما ألقوا } عطف على محذوف للإيجاز ، والتقدير : فألْقَوا . لأن قوله : { فلما ألقوا } يؤذن بهذا المحذوف ، وحذف مفعول { ألقَوا } لظهوره ، أي : ألقوا آلات سحرهم .
ومعنى { سحروا أعين الناس } : جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقَوا من التخييلات والشعوذة .
وتعدية فعل { سحروا } إلى { أعين } مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك ، وهم إنما سحروا العقول ، ولذلك لو قيل : سحروا الناسَ لأفاد ذلك ، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية ، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى :
كذَلكَ فافْعَلْ ما حيَيتَ إذا شَتَوْا ... وَأقْدِم إذَا مَا أعْيُنُ النّاس تَفرقَ
أي إذا ما الناس تفرَق فَرَقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة .
والاسترهاب : طلب الرهب أي الخَوْف . وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين ، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم ، وتلك الأمور أقوال وأفعال توهم أن سيقع شيء مُخيف كأن يقولوا للناس : خُذوا حذركم وحاذروا ، ولا تقتربوا ، وسيقع شيء عظيم ، وسيحضر كبير السحرة ، ونحو ذلك من التمويهات ، والخزعبلات ، والصياح ، والتعجيب .
ولك أن تجعل السين والتاء في { واسترهبوهم } للتأكيد ، أي : أرهبوهم رهَبا شديداً ، كما يقال استكبر واستجاب .
وقد بينت في تفسير قوله تعالى : { يعلّمون الناس السحر } من سورة البقرة ( 102 ) أن مبنى السحر على التخييل والتخويف .
ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعاً مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة .