تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 187 من سورة الأعراف

استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين وقت الساعة .
ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم } [ الأعراف : 185 ] سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا ، وهو الاستئصال ، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة ، فإن الكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين .
وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم ، البعثَ وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل مُمزققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ أفترى على الله كذباً أم به جنةٌ } [ سبأ : 7 ، 8 ] ، وقد جعلوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزاً له ، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوممٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ].
فالسائلون هم المشركون ، وروي ذلك عن قتادة ، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا ، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن ، كقوله تعالى في سورة النازعات ( 42 ) { يسألونك عن الساعة أيّانَ مرساها } وقوله { عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 1 3 ] يعني البعثَ والساعة ، ومن المفسرين من قال : المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الساعة ، وهذا لا يكون سبب نزول الآية ، لأن هذه السورة مكية ، قيل كلها ، وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة ، ولم يعُدوا هذه الآية ، فيما اختُلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضاً نازلة قبل هذه السورة .
والساعة معرّفةً باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي ، وتسمى : يومَ البعث ، ويومَ القيامة .
و { أيّان } اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من ( أي ) الاستفهامية و ( آنَ ) وهو الوقت ، ثم خففت ( أي ) وقلبت همزة ( آن ) ياء ليتأتى الإدغام ، فصارت ( أيّان ) بمعنى أي زمان ، ويتعين الزمان المسؤول عنه بما بعد ( أيان ) ، ولذلك يتعين أن يكون اسمَ معنى لا اسمَ ذات ، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات ، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت ( متى ) من الاستفهام إلى الشرطية ، وهي توسيعات في اللغة تَصيرُ معاني متجددة ، وقد ذكروا في اشتقاق ( أيان ) احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال ، وكلها غير مرضية ، وما ارتأيناه هنا أحسن منها .
فقوله : { أيان } خبر مقدم لصدارة الاستفهام ، و { مرساها } مبتدأ مؤخر ، وهو في الأصل مضاف إليه آن إذ الأصل أي ( آن ) آن مُرسى الساعة .
وجملة : { أيان مُرساها } في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل { يسألونك } والتقدير : يقولون أيان مرساها ، وهو حكاية لقولهم بالمعنى ، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة : { يسألونك عن الساعة }.
والمُرْسَى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رَسَا الجبل ثُبت ، وأرساه أثبته وأقره ، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل :
وقال رَائدُهم أرْسُوا نزاوِلُها ... ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى : { بسم الله مجراها ومرساها } [ هود : 41 ] ، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيهاً لوقوع الأمر الذي كان مترقباً أو متردد فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده .
وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكْم ، إظهاراً لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الشاعة ، وتعليماً للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علْم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمْر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه .
فقد ورد في الصحيح أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله متى الساعة؟ فقال رسول الله ماذا أعْدَدْتَ لها؟ فقال ما أعددتُ لها كبيرَ عَمل إلاّ أني أحب الله ورسوله فقال أنتَ مع مَن أحببت » .
وعلْمُ الساعة هو علم تحديد وقتها كما يُنبىء عنه السؤال ، وقوله : { لا يُجليها لوقتها إلاّ هو } ، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أيْ علْم وقتها ، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وظرفية ( عند ) مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها .
والحصر حقيقي : لأنه الأصل ، ولما دل عليه توكيده بعَد في قوله : { قل إنما علمها عند الله } ، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة ، لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى .
والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماءٌ إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسؤول ففيه إيماء إلى خطإهم وإلى شبهة خطإهم .
و ( التجلية ) الكشف ، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين ، والكشفَ بالإيقاع ، وكلاهما منفيُ الإسناد عن غير الله تعالى ، فهو الذي يعلم وقْتها ، وهو الذي يُظهرها إذا أراد ، فإذا أظهرها فقد أجلاها .
واللام في قوله : { لوقتها } للتوقيت كالتي في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ].
ومعنى التوقيت ، قريب من معنى ( عندَ ) ، والتحقيقُ : أن معناه ناشىء عن معنى لام الاختصاص .
ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء ، وهو الإظهار ، لأنه الذي إذا حصل تَم كشف أمرها ، وتحقق الناسُ أن القادر على إجلائها كان عالماً بوقت حلولها .
وفصلت جملة : { لا يجليها لوقتها إلاّ هو } لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير .
وقدم المجرور وهو { لوقتها } على فاعل { يجليها } الواقع استثناء مفرغاً للاهتمام به تنبيهاً على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة .
وجملة : { ثقلت في السماوات والأرض } معترضة لقصد الإفادة بهولها ، والإيماء إلى حكمة إخفائها .
وفعل { ثقلت } يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة ، أمرها كقوله : { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً }.
ويجوز أن يكون تعجيباً بصيغة فعُل بضم العين فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب ، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل ، فيكون من قبيل قوله : { كُبرت كلمة تخرُج من أفواههم } [ الكهف : 5 ].
والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكِبَر ، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيّل لمن خلت به أنه حامل شيئاً ثقيلاً ، ومنه قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] أي شديداً تلقيه وهو القرآن ، ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث ، فوصفها بذلك مجاز عقلي ، والقرينة واضحة ، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفاً للزمان ، ولكنه وصف للأحداث ، فإذا أسند إلى الزمان ، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفاً للأحداث ، كقوله : { وقالَ هذا يومٌ عَصيبٌ } [ هود : 77 ].
وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض ، من تصادم الكواكب ، وانخرَام سيرها ، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين ، والبحار ، وجفاف المياه ، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي مكان عليه سير العالم ، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات .
ومن بديع الإيجاز تعدية فعل { ثَقُلَت } بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل ، وحذفُ ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف ( إلى ) الذي يدل على ما يقع عليه الفعل ، ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عملية عملية الثقل بمعنى الشدة .
وجملة : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة ، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلاّ لله ، وبأن الله غيرُ مُظهره لأحد ، فدل قوله : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاءٌ متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال ، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سُؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة ، لأن تلك الأمارات ممتدةُ الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها .
و«البغتة» مصدر على زنة المرّة من البغْت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له ، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً } في سورة الأنعام ( 31 ).
وجملة : { يسألونك كأنك حفي عنها } مؤكدة لجملة : { يسألونك عن الساعة } ومبينة لكيفية سؤالهم فلذيْنك فُصلت .
وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى .
و { حَفي } فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقاً من حَفي به ، مثل غَنيِ فهو غَني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفاً ، ويكون المعنى كأنك أكثرتَ السؤال عن وقتها حتى علمته ، فيكون وصف حَفي كناية عن العالم بالشيء ، لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسؤول عنه ، وبهذا المعنى فسر في «الكشاف» فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم ، لأن السؤال سبب العلم ، كقول السموْأل أوْ عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما :
سَلي إنَ جهلت الناسَ عنا وعنهم ... فليسَ سواءً عَالم وجَهُول
وقول عامر بن الطُفيل :
طُلْقت إنَ لم تسألي أي فارس ... حَليلُك إذْ لاقى صُداء وخثْعها
وقول أُنَيْفٍ بن زَبّانَ النبهاني :
فلما التقيْنا بيْنَ السيفُ بيننا ... لسائلةٍ عنّا حَفِيٌّ سؤالها
ويجوز أن يكون مشتقاً من أحفاه إذا ألح عليه في فعل ، فيكون فعيلاً بمعنى مُفعل مثل حَكيم ، أي كأنك مُلح في السؤال عنها ، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله تعالى : { إنْ يسألكموها فيُحْفكم تبخلوا } [ محمد : 37 ].
وقوله : { كأنك حفي } حال من ضمير المخاطب في قوله : { يسألونك } معترضة بين { يسألونك } ومتعلقه .
ويتعلق قوله : { عنها } على الوجهين بكل من { يسألونك } و { حفيّ } على نحو من التنازع في التعليق .
ويجوز أن يكون { حفيّ } مشتقاً من حَفي به ، كرضي بمعنى بَالغ في الإكرام ، فيكون مستعملاً في صريح معناه ، والتقدير : كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكماً بالمشركين ، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة ، روي عن ابن عباس : كأنك صديق لهم ، وقال قتادة : قالت قريش لمحمد : إن بيننا قرابة فأسِرَّ إليْنا متى الساعة فقال الله تعالى : { يسألونك كأنك حَفي عنها } وعلى هذا الوجه يتعلق { عنها } ب { يسألونك } وحذف متعلق { حفي } لظهوره .
وبهذا تعلم أن تأخير { عنها } للإيفاء بهذه الاعتبارات .
وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة ، إذ لا فائدة له في ذلك ، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلباً لإبطال الحكمة في إخفائها ، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالاً نفسياً يصرفه عن تطلب ذلك ، ولو تطلبه لأعْلمه الله به ، كما صرف موسى عليه السلام عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره ، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده .
وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله : { قل إنما علمها عند الله } تأكيداً لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله : { إنما علمها عند ربي } حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله : { قل إنما علمها عند الله } تأكيداً لكونه حصراً حقيقياً ، وإبطالاً لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول ، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة ، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة ، فإنها تتوهم الحقائق على غيْر ما هي عليه ، وتوقن بما يخيل إليها ، وتجعله أصولاً تبني عليها معارفها ومعاملاتها ، وتجعلها حَكماً في الأمور إثباتاً ونفياً ، وهذا فرط ضلالة ، وإنه لَضغْث على إبَالة بتشديد الباء وتخفيفها ، وقد حكي التاريخ القديم شاهداً مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن ( بُخْتَنَصَّر ) ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها ، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم ، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلاّ الآلهة ، غضب ، واغتاظ ، وأمر بقتلهم ، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في ( بابل ) وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه ، ثم بتعبيرها ، وأن دانيال استنظره مدة ، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه ( عزريا ) و ( ميشاييل ) و ( حننيا ) فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل ، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رءاه الملك فأخبر دانيالُ الملكَ بذلك ، ثم عبر له ، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال .