تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 25 من سورة الأعراف
أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفاً غير مقترن بعاطف ، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف ، مع كون القائل واحداً ، والغرضضِ متّحداً ، خروجاً عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف ، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين : الزمخشري وغيره ، ولعلّه رأى ذلك أسلوباً من أساليب الحكاية ، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في «املاءات التّفسير» المروية عنه ، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة ( 140) : { قال أغير الله أبغيكم إلهاً بعد قوله : قال إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن ، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته ، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه ، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه ، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر؛ وقال أبو السّعود : إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده ، وهو قوله : { فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى : { قال فما خطبكم } [ الحجر : 57 ] إثر قوله { قال ومن يقنط من رحمة ربه } [ الحجر : 56 ] فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلاً بغير عنوان كونهم مرسلين ، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة ، فلذلك قال : { فما خطبكم } ، وكما في قوله تعالى : { أرايتك هذا الذي كرمت علي } [ الإسراء : 62 ] بعد قوله { قال أأسجد لِمَنْ خلقت طيناً } [ الإسراء : 61 ] فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى ، هذا حاصل كلامه في مواضع ، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال .
والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوباً في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ ، وأنّه مساو للعطف بثمّ ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول ، كما في قوله تعالى : { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } [ الأعراف : 39 ] بعد قوله { قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] ، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول ، وكونه مستأنفاً : أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر ، إيذاناً بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا ، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان ، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما ، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير : كلَّهم هذا حالهم ، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد ، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر ، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله : { ومنها تخرجون } لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها ، وذلك هو الدّفن بعد الموت ، والشّياطين لا يُدفنون .
وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذٍ أو يموت ويبعث ، ولا يَعلم ذلك إلاّ الله تعالى .
وقد جُعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا .
وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز : وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض ، وتَظهرُ لهما ذريّة ، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم ، ومنها مبعثهم ، يشمَل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد .
وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة ، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها .
وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم ، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم .
وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير ، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته الأحوال ، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفاً بعيداً .
وقرأ الجمهور : تُخْرجون بضمّ الفوقية وفتح الرّاء على البناء للمفعول ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، ويعقوبُ ، وخلف : بالبناء للفاعل .