تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 51 من سورة الأعراف

وقد تقدّم القول في معنى اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عند قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا } في سورة الأنعام ( 70 ).
وظاهر النّظم أنّ قوله : الذين اتخذوا دينهم } إلى قوله الحياة الدنيا هو من حكاية كلام أهل الجنّة ، فيكون : { اتخذوا دينهم لهواً } إلخ صفة للكافرين .
وجُوز أن يكون : { الذين اتخذوا دينهم لهواً } مبتدأً على أنّه من كلام الله تعالى ، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله : { فاليوم ننساهم } داخلة على خبر المبتدأ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشّرط ، كقوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] وقد جُعلَ قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى قوله وماكانوا بآياتنا يجحدون آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعيّن .
{ فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ باياتنا يَجْحَدُونَ }.
اعتراض حكي به كلام يُعْلَن به ، من جانب الله تعالى ، يَسمعه الفريقان . وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلّم ، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنّة .
والفاء للتّفريع على قول أصحاب الجنّة : { إنّ الله حرّمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } الآية ، وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمّى بعطف التّلقين الممثَّل له غالباً بمعطوف بالواو فهو عطف كلام . متكلّم على كلام متكلّم آخَر ، وتقدير الكلام : قال الله { فاليوم ننساهم } ، فحذف فعل القول ، وهذا تصديق لأصحاب الجنّة ، ومَن جعلوا قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } كلاماً مستأنفاً من قِبل الله تعالى تكون الفاء عندهم تفريعاً في كلام واحد .
والنّسيان في الموضعين مستعمل مجازاً في الإهمال والتّرك لأنّه من لوازم النّسيان ، فإنّهم لم يكونوا في الدّنيا ناسين لقاء يوم القيامة ، فقد كانوا يذكرونه ويتحدّثون عنه حديثَ من لا يصِدّق بوقوعه .
وتعليق الظّرف بفعل : { ننساهم } لإظهار أنّ حرمانهم من الرّحمة كان في أشدّ أوقات احتياجهم إليها . فكان لذكر اليوم أثرٌ في إثارة تحسّرهم وندامتهم ، وذلك عذاب نفساني .
ودلّ معنى كاف التّشبيه في قوله : { كما نسوا } على أنّ حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التّصديق باللّقاء ، وهي مماثلَة جزاءِ العمللِ للعمل ، وهي مماثلة اعتباريّة ، فلذلك يقال : إنّ الكاف في مثله للتّعليل ، كما في قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] وإنّما التّعليل معنى يتولّد من استعمال الكاف في التّشبيه الاعتباري ، وليس هذا التّشبيه بمجاز ، ولكنّه حقيقة خفيّة لخفاء وجه الشّبه .
وقوله : { كما نسوا } ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لموصوف محذوف دلّ عليه { ننساهُم } أي نسياناً كمَا نَسُوا .
و ( مَا ) في : { كما نسوا } وفي { وما كانوا } مصدريّة أي كنسيانهم اللّقاء وكجَحْدهم بآيات الله . ومعنى جحد الآيات تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } في سورة الأنعام ( 33 ).