تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 64 من سورة الأعراف
وقع التّكذيب من جميع قومه : من قادتهم ، ودهمائهم ، عدا بعضَ أهل بيته ومن آمَن به عقب سماع قول نوح ، فعُطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلِّغ وينصَح ويعلَم ما لا يعلمون ، فصار تكذيباً أعم من التّكذيب الأوّل ، فهو بالنّسبة للملأ يَؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب ، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنُف ، بعد سماع قول قَادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح ، فليس الفعل مستعملاً في الاستِمرار كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } [ النساء : 136 ] إذ لا داعي إليه هنا ، وضمير الجمع عائد إلى القوم ، والفاء في قوله : { فأنجيناه } للتّعقيب ، وهو تعقيب عُرفي : لأنّ التّكذيب حصل بعده الوَحْيُ إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلاّ مَن قد آمن ، ولا يُرجى زيادة مؤمن آخر ، وأمرُه بأن يدخل الفلك ويحملَ معه مَن آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود .
وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين ، فذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة ، وإلاّ فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلاّ بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقّب به التّكذيب ابتداءً هو الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء .
وقوله : { في الفلك } متعلّق بمعنى قوله : { معه } لأنّ تقديره : استقرّوا معه في الفلك ، وبهذا التّعليق عُلم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشراً ، وأنّهم كانوا مصدّقين له ، فكان هذا التّعليق إيجازاً بديعاً .
والفُلك تقدّم في قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 164 ).
{ والذين معه } هم الذين آمنوا به ، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصّته في سورة هود .
والإتيان بالموصول في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } دون أن يقال : وأغرقنا سائرهم ، أو بقيتهم ، لما تؤذن به الصّلة من وجه تعليل الخبر في قوله : { وأغرقنا } أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم .
وجملة : { إنهم كانوا قوماً عمين } تتنزل منزلة العلّة لجملة { أغرقنا } كما دلّ عليه حرف ( إن ) لأنّ حرف ( إن ) هنا لا يقصد به ردّ الشكّ والتَّرَدّد ، إذ لا شكّ فيه ، وإنّما المقصود من الحرف الدّلالة على الاهتمام بالخبر ، ومن شأن ( إن ) إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فَاء التّفريع ، وتفيدَ التّعليل وربط الجملة بالتي قبلها . ففصل هذه الجملة كَلاَ فَصْل .
و { عَمِين } جمع عَممٍ جمع سلامة بواو ونون . وهو صفة على وزن فَعِل مثل أشِر ، مشتق من العمَى ، وأصله فقدان البصر ، ويطلق مجازاً على فقدان الرأي النّافع ، ويقال : عَمَى القَلْببِ ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصّفة المشبَّهة لدلالتها على ثبوت الصّفة ، وتمكّنها بأن تكون سجية وإنّما يصدّق ذلك في فقد الرّأي ، لأنّ المرء يخلق عليه غالباً ، بخلاف فقد البصر ، ولذلك قال تعالى هنا { عَمِين } ولم يقل عُمْياً كما قال في الآية الأخرى
{ عُمْياً وبكماً وصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] ومثله قول زهير :
ولكنّني عن عِلْممِ مَا فِي غدٍ عَمِ ... والذين كذّبوا كانوا عمين لأنّ قادتهم دَاعون إلى الضّلالة مؤيّدونها ، ودهماؤهم متقبّلون تلك الدّعوة سمَّاعون لها .
وقد دلّت هذه القصّة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطوّرَ الخلق الإنساني : فإنّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له الحسّ الظاهر والحِسّ الباطن ، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسيَّة في إدراك أوائل العلوم ، ولكنّه استعمل بعض ذلك فيما جلَب إليه الضرّ والضّلال ، وذلك باستعمال القواعد الحِسّية فيما غاب عن حسِّه وإعانتها بالقوى الوهميّة والمخيَّلة ، ففكّر في خالقه وصفاته فتوهّم له أنداداً وأعواناً وعشيرة وأبناء وشركاءَ في مُلكه ، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتّى عاد عليه بنسيان خالقه ، إذ لم يَدخل العلمُ به تحت حواسه الظّاهرة ، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتّخذ لها صُوراً محسوسة ، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيبَ إدراكهم ، فأرسل إليهم نوحاً فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم ، فأراد الله انتخاب الصّالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى ، وهم نوح ومن آمن به ، واستيصال الذين تمكّنت الضّلالة من عقولهم ليُنشىء من الصّالحين ذرّية صالحة ويَكْفِيَ الإنسانيّة فساد الضّالين ، كما قال نوح : { إنَّك إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلوا عبادَك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفَّارا } [ نوح : 27 ] ، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديداً لصلاح البشر وانتخاباً للأصْلَح .