تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 8 من سورة الأعراف
عطف جملة : { والوزن يومئذٍ الحق } على جملة { فلنقصن } [ الأعراف : 7 ] ، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم ، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهرَ ذلك العلم وأثَرَه هو الثّواب والعقاب ، وتفاوتُ درجات العاملين ودرَكاتهم تفاوتاً لا يُظلم العامل فيه مثقال ذرّة ، ولا يفوتُ ما يستحقّه إلاّ أن يتفضّل الله على أحدٍ برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك ، ممّا الله أعلم به مِن عبادِه ، فلذلك عقبت جملة : { فلنقصن } [ الأعراف : 7 ] بجملة : { والوزن يومئذٍ الحق } فكأنّه قيل : فلنقصنّ عليهم بعلم ولنُجَازِيَنَّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد .
والتّنوين في قوله : { يومئذٍ } عوض عن مضاف إليه دلّ عليه : { فلنسألن الذين أرْسِلَ إليهم } [ الأعراف : 6 ] وما عطف عليه بالواو وبالفاء ، والتّقدير : يومَ إذ نسألهم ونسأل رُسلَهم ونقُص ذنوبهم عليهم .
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار ، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيَّن جُعلت أجسام أخرى يُعرف بها مقدار التّفاوت ، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء ، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلاً واتساعاً .
والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تُسمّى مَوازين ، وَاحِدُها ميزان أيضاً وتسمّى أوزاناً واحدها وَزْن ، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوِه قال تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [ الكهف : 105 ] وفي حديث أبي هريرة ، في «الصّحيحين» : " إنَّه ليؤتى بالعظيم السمين يومَ القيامة لا يَزن عند الله جَناح بعوضة " . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال ، كقول الراعي :
وَزَنَتْ أميَّةُ أمْرَها فدَعَتْ له ... من لَمْ يكن غُمِراً ولا مَجهولاً
فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير مَا تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعييناً لا إجحاف فيه ، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال ، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصّالح لله وكونِه ريَاء ، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونِه لمجرّد الطمع في الغنيمة ، فيكون الجزاء على قدر العمل ، فالوزن استعارة ، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ، ينطق أو يتكيّف بكيفيّةٍ فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها ، وذلك ممكن ، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها .
والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات ، لأنّها من خوارق المتعارف ، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة ، فما جاء منها بصيغة المصدر غيرَ متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمْلُه على المجاز المشهور كقوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً }
[ الكهف : 105 ]. وما جاء منها على صيغة الاسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله : { فمن ثقلت موازينه } إلخ ومثل قول النّبيء صلى الله عليه وسلم « كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان » وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ]. وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام ، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديث قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك : « فاطلبْني عند الميزان » خرّجه التّرمذي .
وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة ، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش ، وقالوا : هو القضاء السوي ، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور ، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهورُ المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش ، والأمر هين ، والاستدلال ليس ببيِّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته .
والإخبار عن الوزن بقوله : { الحق } إن كان الوزن مجازاً عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل ، أي الجزاء عادل غير جائز ، لأنّه من أنواع القضاء والحكم ، وإن كان الوزن تمثيلاً بهيئة الميزان ، فالعدل بمعنى السوي ، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يحجف .
وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقاً .
وتفرع على كونه الحق قوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون . ومحل التّفريع هو قوله : { فأولئك هم المفلحون } وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك مفرّع على قوله : { فمن ثقلت موازينه } وقوله : ومن خفت موازينه .
وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون ، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة ، أي من ثقلت موازينه الصّالحات ، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن ، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائِها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها .
والثّقل مع تلك الاستعارة هو أيضاً ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء ، ثمّ الخفّة مستعارة لعدم الأعمال الصّالحة أخذاً بغاية الخفة على وزان عكس الثّقل ، وهي أيضاً ترشيح ثان لاستعارة الميزان ، والمراد هنا الخفّة الشّديدة وهي انعدام الأعمال الصّالحة لقوله : { بما كانوا بآياتنا يظلمون }. والفلاَح حُصول الخير وإدراك المطلوب .
والتّعريف في { المفلحون } للجنس أو العهد وقد تقدّم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في سورة البقرة ( 5 ).
وما صْدَقُ ( مَن ) واحد لقوله : { موازينه } ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معيّن ، بل هو كلّ من تحقّق فيه مضمون جملة الشّرط ، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضّميرين من قوله : { فأولئك هم المفلحون }.
والاتيان بالإشارة للتّنبيه على أنّهم إنّما حصلوا الفلاَح لأجل ثقل موازينهم ، واختير اسم إشارة البعد تنبيهاً على البعد المعنوي الاعتباري .
وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقّق المفلحين ، أي إن علمتَ جماعة تعرف بالمفلحين فهم هُم .