تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 88 من سورة الأعراف
كان جوابهم عن حجّة شعيب جوابَ المفحَم عن الحجّة ، الصائر إلى الشدّة ، المزدهي بالقوة ، المتوقّععِ أن يكثر معاندوه ، فلذلك عدلوا إلى إقصاء شعيب وأتباعه عن بلادهم خشية ظهور دعوته بين قومهم ، وبث أتنباعه دعوته بين الناس ، فلذلك قالوا : { لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا }.
وتفسير صدر الآية هو كتفسير نظيره من قصّة ثمود .
وإيثار وصفهم بالاستكبار هنا دون الكفر ، مع أنّه لم يحك عنم هنا خطاب المستضعفين ، حتّى يكون ذكر الاستكبار إشارة إلى أمّهم استضعفوا المؤمنين كما اقتضته قصة ثمود ، فاختير وصف الاستكبار هنا لمناسبة مخاطبتهم شعيباً بالإخراج أو الإكراه على اتّباع دينهم ، وذلك من فعل الجبّارين أصحاب القوة .
وكان إخراج المغضوب عليه من ديار قبيلته عقوبة متّبعة في العرب إذا أجمعت القبيلة على ذلك ويسمّى هذا الإخراج عند العرب بالخَلْع ، والمخرَج يسمّى خليعاً .
قال امرؤ القيس :
به الذئبُ يعوي كالخليع المعيل ... وأكدوا التوعّد بلام القسم ونون التوكيد : ليوقن شعيب بأنّهم منجزو ذلك الوعيد .
وخطابهم إيّاه بالنداء جار على طريقة خطاب الغضب ، كما حكى الله قول آزر خطاباً لإبراهيم عليه السلام { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } [ مريم : 46 ].
وقوله : { معك } متعلّق ب { لنخرجنّك } ، ومتعلّق { آمنوا } محذوف ، أي بك ، لأنهم لا يصفونهم بالإيمان الحقّ في اعتقادهم .
والقرية ( المدينة ) لأنها يجتمع بها السكان . والتقرّي : الاجتماع . وقد تقدم عند قوله تعالى : { أوْ كالذي مرّ على قرية } [ البقرة : 259 ] ، والمراد بقريتهم هنا هي ( الأيكة ) وهي ( تبوك ) وقد رددوا أمر شعيب ومن معه بين أن يُخرجوا من القرية وبين العود إلى ملة الكفر .
وقد جعلوا عود شعيب والذين معه إلى ملّة القوم مقسماً عليه فقالوا : { أو لتعودُن } ولم يقولوا : لنخرجنّكم من أرضنَا أو تعودن في ملّتنا ، لأنّهم أرادوا ترديد الأمرين في حيز القسم لأنهم فاعلون أحد الأمرين لا محالة وأنّهم ملحّون في عودهم إلى ملّتهم .
وكانوا يظنّون اختياره العود إلى ملّتهم ، فأكدوا هذا العود بالقسم للإشارة إلى أنّه لا مَحيد عن حصوله عوضاً عن حصول الإخراج لأن أحد الأمرين مُرضضٍ للمقسمين ، وأيضاً فإن التوكيد مؤذن بأنّهم إن أبوا الخروج من القرية فإنهم يكرهون على العود إلى ملّة القوم كما دل عليه قول شعيب في جوابهم : { أوَلْو كُنّا كارهين } ولما كان المقام للتوعّد والتّهديد كان ذكر الإخراج من أرضهم أهم ، فلذلك قدموا القسم عليه ثم أعقبوه بالمعطوف بحرف ( أوْ ).
والعَوْد : الرجوع إلى ما كان فيه المرء من مكان أو عمل ، وجعلوا موافقة شعيب إياهم على الكفر عوداً لأنهم يحسبون شعيباً كان على دينهم ، حيث لم يكونوا يعلمون منه ما يخالف ذلك ، فهم يحسبونه ، موافقاً لهم من قبل أن يدعو إلى ما دعا إليه .
وشأن الذين أرادهم الله للنبوءة أن يكونوا غير مشاركين لأهل الضلال من قومهم ولكنّهم يكونون قبل أن يُوحى إليهم في حالة خلو عن الإيمان حتى يهديهم الله إليه تدريجاً ، وقومهم لا يعلمون باطنهم فلا حيرة في تسمية قومه مُوافقته إيّاهم عوداً .
وهذا بناء على أن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوءة ، وذلك قول جميع المتكلمين من المسلمين ، وقد نبّه على ذلك عياض في «الشفاء» في القسم الثالث وأورد قول شعيب : { إنْ عُدنا في ملّتكُم } [ الأعراف : 89 ] وتأول العود بأنّه المصير ، وذلك تأويل كثير من المفسرين لهذه الآية . ودليل العصمة من هذا هو كمالهم ، والدليل مبني على أن خلاف الكمال قبل الوحي يُعد نقصاً ، وليس في الشريعة دليل قاطع على ذلك ، وإنّما الإشكال في قول شعيب { إنْ عدنا في ملّتكم } [ الأعراف : 89 ] فوجهه أنّه أجراه على المشاكلة والتغليب . وكلاهما مصحّح لاستعمال لفظ العود في غير معناه بالنسبة إليه خاصة ، وقد تولى شعيب الجواب عمّن معه من المؤمنين ليقينه بصدق إيمانهم .
والملّة : الدين ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ مَنْ سَفِه نفسَه } في سورة البقرة ( 130 ).
وفصل جملة : { قال الملأ } لوقوعها في المحاورة على ما بيناه عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ).
فصل جملة { قال . . } لوقوعها في سياق المحاورة .
والاستفهام مستعمل في التعجب تعجباً من قولهم : { أو لتعودن في ملّتنا } المؤذننِ ما فيه من المؤكّدات بأنّهم يُكرهونهم على المصير إلى ملّة الكفر ، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان ، ليعلم قومه أنّه أحاط خبراً بما أرادُوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين : الإخراج أو الرجوع إلى ملّة الكفر ، شأنَ الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئاً مما أراده خصمه في حوارِه ، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملّتهم بالإكراه ، مع أن شأن المُحقّ أن يشرك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكّأ على عصا الضّغط والإكراه ، ولذا قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ } [ البقرة : 256 ]. فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب .
والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكَرهُ بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة ، فكاره الشيء لا يدانيه إلاّ مغصوباً ويقال للغصب إكراه ، أي مُلجَئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم } في سورة البقرة ( 216 ).
و ( لو ) وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها ، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب . فالتقدير : أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين . وقد تقدم تفصيل ( لو ) هذه عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به }
في سورة آل عمران ( 91 ). وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال .