تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 5 من سورة القيامة

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
{ بل } إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم ، فموقع الجملة بعد { بل } بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين ، أي لمَّا دُعُوا إلى الإقلاع عن الإِشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر .
والفُجورُ : فعل السوء الشديد ويطلق على الكَذِب ، ومنه وُصفت اليمين الكاذبة بالفاجرة ، فيكون فجَر بمعنى كذب وزْناً ومعنًى ، فيكون قاصراً ومتعدياً مثل فعل كَذَب مُخفف الذال . روي عن ابن عباس أنه قال : يعني الكافر يكذِّب بما أمامه . وعن ابن قتيبة : أن أعرابياً سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبَر راحلته فاتَّهمه عمر فقال الأَعرابي :
مَا مَسَّها من نَقَببٍ ولا دَبَر ... أقْسَمَ بالله أبو حفص عمرْ
فاغفِرْ له اللهم إنْ كانَ فَجَرْ ... قال : يعني إن كان نسبني إلى الكذب .
وقوله : { يريد الإِنسان } يجوز أن يكون إخباراً عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور .
ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً موافقاً لسياق ما قبله من قوله : { أيحسب الإِنسانُ أنْ لن نجمع عظامه } [ القيامة : 3 ] .
وأعيد لفظ { الإِنسان } إظهاراً في مقام الإِضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب من ضلاله .
وكرر لفظ { الإِنسان } في هذه السورة خمسَ مرات لذلك ، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين الرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها .
واللام في قوله : { ليفجر } هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإِرادة نحو { وأمِرْتُ لأَعْدِلَ بينَكم } [ الشورى : 15 ] { يُريد الله ليُبيِّنَ لكم } [ النساء : 26 ] وقول كُثيِّر :
أريد لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي ليلى بكُل مكان
وينتصب الفعل بعدها ب ( أنْ ) مضمرة ، لأنه أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل : هي لام التعليل وقيل : زائدة . وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره ، أي إرادتهم للفجور . واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها ، ولهذا الاستعمال الخاص بها . قال النحاس سماها بعضُ القُراء ( لاَمَ أنْ ) . وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى : { يُريد الله ليُبَيِّنَ لكم } في سورة النساء ( 26 ) .
وأمَام : أصله اسم للمكان الذي هو قُبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلْف ، ويطلق مجازاً على الزمان المستقبل ، قال ابن عباس : يكذب بيوم الحساب ، وقال عبد الرحمان ابن زيد : يكذب بما أمامه سَفَط .
وضمير أمامه } يجوز أن يعود إلى الإِنسان ، أي في مستقبله ، أي من عمره فيمضي قُدُماً راكباً رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يَزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور . وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه .
ويجوز أن يكون { أمامه } أُطلق على اليوم المستقبل مجازاً وإلى هذا نحا ابن عَباس في رواية عنه وعبدُ الرحمان بن زيد ، ويكون { يفجر } بمعنى يكذب ، أي يَكذِب باليوم المستقبل .