تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 1 من سورة النازعات
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) ابتدئت بالقسَم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قَسَماً مراداً منه تحقيقُ ما بعده من الخبر وفي هذا القسَم تهويل المقسم به .
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جُموع جَرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جَماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة ، فهي جماعات ، نازعات ، ناشطات ، سابحات ، سابقات ، مدبِّرات ، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلّ عليها الأوصاف الصالحة لها .
فيجوز أن تكون صفاتتٍ لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميزها تلك الصفات .
ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصيَّةً من خواصّ نوع من الموجودات العظيمة قوامُه بتلك الصفة .
والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف ، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة ، وأنَّ المعطوفاتتِ بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عُطفت عليه بالفاء ، فهي صفات متعددة متفرّع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قَسماً بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها .
وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف . وأحسن الوجوه على الجملةِ أن كلّ صفة مما عُطف بالواو مراداً بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى ، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حالةً أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم . وسنتعمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظَمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعَةِ بصيرةٍ .
وهذا الإِجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كلَّ مذهب ممكن ، فتكثر خطور المعاني في الأذهان ، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقْع كل معنى في نفس له فيها أشدُّ وقْععٍ وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ .
فالنازعات : وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإِخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز .
فيحتمل أن يكون { النازعات } جماعات من الملائكة وهم الموكّلون بقبض الأرواح ، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية ، ومنهم قولهم في المحْتضَر هو في النزع . وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا } [ الحجرات : 14 ] .
وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدّي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات ، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيراً للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت ، ولأنهم شديدٌ تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لمَّا ذكر اليهود : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } [ البقرة : 96 ] فالمشركين مَثَل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة .
والقسَم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال .
وغرقا : اسم مصدر أغرق ، وأصله إغراقاً ، جيء به مجرداً عن الهمزة فعومل معاملة مصدر الثلاثي المتعدّي مع أنه لا يوجد غرِق متعدياً ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضاً عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدّر فعله بعد حذف الزوائد متعدياً .
ولو قلنا : إنه سكنت عينه تخفيفاً ورعياً للمزاوجة مع { نشطاً } ، و { سبحا } ، و { سبقاً } ، و { أمراً } لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون ، وهذا مصدر وصف به مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات ، أي نَزْعاً غَرقاً ، أي مغرقاً ، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد .
ويجوز أن تكون { النازعات } صفة للنجوم ، أي تنزع من أفق إلى أفق ، أي تسير ، يقال : ينزع إلى الأمر الفلاني ، أي يميل ويشتاق .
وغرقاً : تشبيه لغروب النجوم بالغَرْق في الماء وقاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش ، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غَرِق وأن تسكين عينه تخفيف .
والقَسَم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مَظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى : { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] .
ويحتمل أن تكون { النازعات } جماعات الرّماة بالسهام في الغزو يقال : نزع في القوس ، إذا مدَّها عند وضع السهم فيها . وروي هذا عن عكرمة وعطاء .
والغَرف : الإِغراق ، أي استيفاء مدّ القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسماً بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله ، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذٍ غزوات ولا كانوا يرجونها ، فالقَسَم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضْد شوكتهم ، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم