تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 7 من سورة الأنفال
الأحسن أن تكون { وإذ يعدكم الله } معطوفاً على { كما أخرجك } [ الأنفال : 5 ] عطفَ المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبهاً به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى : كاخراجك اللَّهُ من بيتك وكوقتتِ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتُؤَول بمصدر ، والتقدير : وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين ، ف { إذ } اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه ، وجعَل صاحب «الكشاف» { إذْ } مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف شأن { إذْ } الواقعة في مفتتح القِصص ، فيكون عطفُ جملةِ الأمر المقدرِ على جملة { قل الأنفال لله } [ الأنفال : 1 ] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم .
و«الطائفة» الجماعة من الناس ، وتقدم عند قوله { فلتقم طائفةٌ منهم معك } في سورة [ النساء : 102 ].
( وجملة : { أنّها لكم } في تأويل مصدر ، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين ، أي : يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم ، أي كونها معطاة لكم ، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة .
واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي ، كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان ، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة .
{ وتَودون } إما عطف على { يعَدكم } أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم ، وإما في موضع الحال والواو واو الحال ، أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف { وإذ يعدكم } ، مجرور الكاف في قوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } [ الأنفال : 5 ] فهو مما شبه به حال سُؤالهم عَن الأنفال سؤالاً مشوباً بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها .
و«الوُد» المحبة و { ذات الشوكة } صاحبة الشوكة ووقع { ذات } صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة ، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال .
و { الشوكة } أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبَر ، فإذا نزغت جلد الإنسان أدْمته أو آلمته ، وإذا عَلِقَت بثوب أمسكَتْه ، وذلك مثل ما في ورق العَرفج ، ويقال هذه شجرة شائكة ، ومن الكناية عن ظهور الشر قولُهم : «إن العَوسج قد أوْرق» ، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها .
وشاع استعارة الشوكة للبأس ، يقال : فلان ذو شوكة ، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للبَاس في قولهم : أبدى قَرنه ، والناب أيضاً في قولهم : كشّر عن نابه ، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم .
وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عِير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر ، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما العِير وإمّا النفير وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما ، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعِير أم يقصدون نفير قريش ، فقال الناس : إنما خرجنا لأجل العِير ، وراموا اللحاق بالعِير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش ، وكانت العِير لا تشتمل إلا على أربعين رجلاً وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح ، فذلك معنى قوله تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي تودون غنيمة بدون حرب ، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العِير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية ، أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة .
وقوله : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } عطف على جملة { وتودون } على احتمالي أن واوَها للعطف أو للحال ، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم ، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم ، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم . فهذا تلطف من الله بهم .
والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات . فهذا كقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] أي يسَّر بكم .