تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 21 من سورة الفجر

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) { جَمّاً } .
زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله ، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين ، وأكلُهم التراث الذي هو مالُ غير آكله ، وعن حب المال حبّاً جمّاً .
{ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الارض دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى * يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ } .
استئناف ابتدائي انْتُقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } [ الفجر : 6 ] الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة . فإن استخفوا بما حلّ بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذاباً لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكّرون قَسْراً فلا ينفعهم التذكر ، ويندمون ولات ساعةَ مندم .
فحاصل الكلام السابق أن الإِنسان الكافر مغرور يَنُوط الحوادث بغير أسبابها ، ويتوهمها على غير ما بها ولا يُصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طولَ حياته في عَماية ، وقد زجروا عن ذلك زجراً مؤكداً .
وأَتبع زجرهم إنذاراً بأنهم يحين لهم يوم يُفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإِفاقة .
والمقصود من هذا الكلام هو قوله : { فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد } ، وقوله { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] ، وأما ما سبق من قوله { إذا دكت الأرض } إلى قوله { وجيء يومئذٍ بجهنم } فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عُرِّف بإضافة جملة { دكت الأرض } وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب .
والدّك : الحَطْم والكسر .
والمراد بالأرض الكُرَة التي عليها الناس ، ودكّها حطمها وتفرق أجزائها الناشىءُ عن فساد الكون الكائنة عليه الآن ، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] الآية .
و { دكاً دكاً } يجوز أن يكون أولهما منصوباً على المفعول المطلق المؤكِّد لفعله . ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دَكُّ الجبال ، وإذ قد كان أمراً خارقاً للعادة كان المقام مقتضياً تحقيق وقوعه حقيقةً دون مجاز ولا مبالغة ، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله : { فدكتا دكة واحدة } في سورة الحاقة ( 14 ) ف { دكّا } الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن «دُكّتا» الدك أي هو دَكّ حقيقي ، و { دَكا } الثاني منصوباً على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى إثباتُه زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي .
وعلى هذا درج الرضي قال : ويستثنى من منع تأكيد النكرات ( أي تأكيداً لفظياً ) شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكماً لا محكوماً عليه كقوله صلى الله عليه وسلم
" فنكاحها باطل باطل باطل " . ومثله قوله تعالى : { دكت الأرض دكاً دكاً } فهو مثل : ضَرَبَ ضَرَب زيدٌ ا ه .
وهذا يلائم ما في وصف دكّ الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } [ الحاقة : 14 ] ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة .
ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبيِّن للنوع . وتأويله . أنه دكّ يعقُب بعضه بعضاً كما تقول : قرأت الكتاب باباً باباً وبهذا المعنى فسّر صاحب «الكشاف» وجمهور المفسرين من بعده . وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي : «قال ابن الحاجب : لعلّه قالَه في «أماليه على المقدمة الكافية» وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في «إيضاح المفصل» بينت له حسابه باباً باباً ، أي مفصلاً . والعرب تكرر الشيء مرتين» فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دلّ عليه لفظُ المكرّر ، فإذا قلت : بَيَّنْت له الكتاب باباً باباً فمعناه بينته له مفصلاً باعتبار أبوابه اه .
قلت : هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول .
وفي «تفسير الفخر» : وقيل : فبُسِطَتَا بسطةً واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها أمتاً وتبعه البيضاوي يعني : أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك ، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء .
ولك أن تجعل صفة واحدة مجازاً في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها ، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم : هو وحيد قومه ، ووحيد دهره ، فلا يعارض قوله : { دكاً دكاً } بهذا التفسير . وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغةِ فَاعل فلم يسمع : هو واحد قومه .