تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 28 من سورة الفجر
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله : { إلى ربك } إظهاراً في مقام الإِضمار بقرينة تفريع { فادخلي في عبادي } عليه . ونكتةُ هذا الإِظهار ما في وصف { رب } من الولاء والاختصاص . وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطَبة من التشريف لها . وإن كان من قول الملائكة فلفظ { ربك } جرى على مقتضى الظاهر وعطفُ { فادخلي في عبادي } عطف تلقين يصدر من كلام الله تعالى تحقيقاً لقول الملائكة { ارجعي إلى ربك } .
والرجوع إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف قال تعالى : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] بحيث شُبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها : ارجعي إليه ، وهذا الرجوع خاصٌّ غير مطلق الحلول في الآخرة .
ويجوز أن تكون الآية استئنافاً ابتدائياً جرى على مناسبة ذكر عذاب الإِنسان المشرك فتكون خطاباً من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة .
والأمر في { ارجعي إلى ربك } مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما { راضية مرضية } وهو من استعمال الأمر في الوعد والرجوع مجاز أيضاً ، والإِضمار في قوله : { في عبادي } وقوله : { جنتي } التفات من الغيبة إلى التكلم .
وقال بعض أهل التأويل : نزلت في معيَّن . فعن الضحاك : أنها نزلت في عثمان بن عفان لما تصدق ببئرِ رومة . وعن بريدة : أنها نزلت في حمزة حين قُتل . وقيل : نزلت في خُبَيب بن عديّ لما صلبه أهل مكة . وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية مدنية ، والاتفاقُ على أن السورة مكية إلا ما رواه الدَّاني عن بعض العلماء أنها مدنية ، وهي على هذا منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة .
وعن ابن عباس وزيدِ بن حارثة وأبيّ بن كعب وابننِ مسعود : أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد ، وعلى هذا فهي متصلة بقوله :
{ إذا دكت الأرض } [ الفجر : 21 ] الخ كالوجه الذي قبل هذا ، والرجوع على هذا حقيقة والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد .
وعن زيد بن حارثة وأبي صالح : يقال هذا للنفس عند الموت . وقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال : قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم { يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية } فقال أبو بكر : ما أحسنَ هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أمَا إنَّ الملَك سيقولها لك عند الموت » . وعن زيد بن حارثة أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة .
والنفس : تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب اللَّه } [ الزمر : 56 ] وقوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق } [ الأنعام : 151 ] وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله : { إن النفس لأمارة بالسوء } [ يوسف : 53 ] .
وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى .
و { المطمئنة } : اسم فاعل من اطمأن إذا كان هادئاً غير مضْطَرِب ولا منزعج ، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب باللٍ فيكون ثناء على هذه النفس ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة .
وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن أفْعَلَلَّ . والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما يُنطَق به وهذا قول أبي عَمرو . وقال سيبويه : أصل الفعل : طَأْمَنَ فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة فيكون أصل مطمئنة عنده مُطْأَمِنَّة ومصدره اطئمنان وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } في سورة البقرة ( 260 ) وقوله : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } في سورة النساء ( 103 ) .
ووصف النفس } ب { المطمئنة } ليس وصفاً للتعريف ولا للتخصيص ، أي لتمييز المخاطَبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة لأنهم لا يَعْرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإِذن لهم بدخول الجنة ، فالوصف مراد به الثناء والإِيماء إلى وجه بناء الخبر . وتبشير من وُجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون . ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاماً في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون .
والاطمئنان : مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء .
وقد فُسر الاطمئنان : بيقين وجود الله ووحدانيته ، وفسر باليقين بوعد الله ، وبالإخلاص في العمل ، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة ، وفسر بتبشيرهم بالجنة ، أي قبل ندائهم ثم نُودُوا بأن يدخلوا الجنة .
والرجوع يحتمل الحقيقة والمجاز كما علمت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية .
والراضية : التي رضت بما أُعطيته من كرامة وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه .
والمرضية : اسم مفعول وأصله : مَرضياً عنها ، فوقع فيه الحذف والإِيصال فصار نائب فاعل بدون حرف الجر ، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإِنعام لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما رضي به هو .