تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 112 من سورة التوبة
اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] فكان أصلها الجر ، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية ، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً ، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى .
ف { التائبون } مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقتراففِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } [ التوبة : 117 ] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } [ التوبة : 74 ] بعد قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] الآية المتقدمة آنفاً . وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك ، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه . وبذلك فارق النعت المنعوت وهو { المؤمنين } [ التوبة : 111 ].
و { العابدون } : المؤدّون لما أوجب الله عليهم .
و { الحامدون } : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له .
و { السائحون } : مشتق من السياحة . وهي السير في الأرض . والمراد به سير خاص محمود شرعاً . وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره ، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد . وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج .
و { الراكعون الساجدون } : هم الجامعون بينهما ، أي المصلون ، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود .
و { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } : الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه . وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات ، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين ، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله : { الراكعون الساجدون } ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض . ثم لما ذكر { الراكعون الساجدون } علم أن المراد الجامعون بينهما ، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين . ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط ، قال تعالى في شأن داود عليه السلام : { وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] ، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى ، قال تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } [ آل عمران : 43 ]. ولما جاء بعده { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما { الراكعون الساجدون } فالواو هنا كالتي في قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التوبة : 112 ].
و { الحافظون لحدود الله } : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها . وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع . ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا ، أي والحافظون لما عين الله لهم ، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله .
وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر . فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } في سورة البقرة ( 229 ). ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف . وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف .
وقال جمع من العلماء : إن الواو في قوله : والناهون عن المنكر } واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن ، وسمَّوها واوَ الثَّمانية . قال ابن عطية : ذكرها ابن خَالويه في مناظرتِه لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ]. وأنكرها أبو علي الفارسي . وقال ابن هشام في «مغني اللبيب» «وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ، ومن المفسرين كالثعلبي ، وزعموا أن العرب إذا عَدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية ، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف ، واستدلُّوا بآيات إحداها : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى قوله سبحانه { سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ]. ثم قال : الثانية آيةُ الزمر ( 71 ) إذ قيل : { فُتحت } في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة ، { وفتحت } [ الزمر : 73 ] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية . ثم قال : الثالثة : { والناهون عن المنكر } فإنه الوصف الثامن . ثم قال : والرابعة : { وأبكاراً } في آية التحريم ( 5 ) ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي . . . وأما قول الثعلبي : أن منها الواو في قوله تعالى : { سبعَ ليال وثمانيةَ أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه . وأطَال في خلال كلامه بردود ونقوض .
وقال ابن عطية «وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي وأنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة ، فهكذا هي لغتهم . ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو» اه .
وقال القرطبي : هي لغة قريش .
وأقول : كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتاً ونفياً ، وتوجيهاً ونقضاً . والوجه عندي أنه استعمال ثابت ، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدَل بها . ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامناً في الذكر لا في الرتبة .
وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى : { وفُتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ]. فإن مجيء الواو لِكون أبواب الجنة ثمانية ، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية . وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر { حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ].
وجملة : { وبشر المؤمنين } عطف على جملة { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] عطفَ إنشاء على خبر . ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوففِ عليه العمل به فأشبه الأمر . والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي . فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ].
والبشارة تقدمت مراراً .