تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 3 من سورة التوبة
عطف على جملة { براءة من الله ورسوله } [ التوبة : 1 ] وموقع لفظ { أذان } كموقع لفظ { براءة } [ التوبة : 1 ] في التقدير ، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأنّ عهدهم انتقض .
والأذانُ اسم مصدر آذنه ، إذا أعلمه بإعلان ، مثل العطاء بمعنى الإعطاء ، والأمان بمعنى الإيمان ، فهو بمعنى الإيذان .
وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دُون المسلمين ، لأنّه تشريع وحكم في مصالح الأمّة ، فلا يكون إلاّ من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة ، لئلا يكونوا غادرين ، كما قال تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ]. والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يَهُمّ الناس كلّهم .
ويوم الحجّ الأكبر : قيل هو يوم عرفة ، لأنّه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد ، وهذا يروى عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وفي الحديث : « الحج عرفة »
وقيل : هو يوم النحر ، لأنّ الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذْ كانت الحُمْس يقفون بالمزدلفة ، ويقف بقية الناس بعرفة ، وكانوا جميعاً يحضرون منى يوم النحرِ ، فكان ذلك الاجتماع الأكبرَ ، ونسَب ابنُ عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد ، وهذا قول علي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، والمغيرة بن شعبة ، وابن عباس أيضاً ، وابن أبي أوفى ، والزهري ، ورواه ابن وهب عن مالك ، قال مالك : لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنّه اليوم الذي تُرمى فيه الجمرة ، وينحر فيه الهدي ، وينقضي فيه الحج ، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرَك الحج .
وأقول : إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة . فأما يوم منى فيوم عيدهم .
و { الأكبر } بالجرّ نعت للحجّ ، باعتبار تجزئته إلى أعمال ، فوُصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر ، ويظهر من اختلافهم في المراد من الحجّ الأكبر أنّ هذا اللفظ لم يكن معروفاً قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه .
وهذا الكلام إنشاءٌ لهذا الأذان ، موقّتاً بيوم الحجّ الأكبر ، فيؤوّل إلى معنى الأمر ، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحجّ الأكبر بأنّ الله ورسوله بريئان من المشركين .
والمراد ب { الناس } جميع الناس الذين ضمّهم الموسم ، ومن يبلغه ذلك منهم : مؤمنهم ومشركهم ، لأنّ هذا الأذان ممَّا يجب أن يعلمه المسلم والمشرك ، إذ كان حكمه يلزم الفريقين .
وقوله : { أن الله بريء من المشركين } يتعلّق ب { أذان } بحذف حرف الجرّ وهو باء التعدية أي إعلام بهذه البراءة المتقدّمة في قوله :
{ براءة من الله ورسوله } [ التوبة : 1 ] فإعادتها هنا لأنّ هذا الإعلام للمشركين المعاهَدين وغيرهم ، تقريراً لعدم غدر المسلمين ، والآية المتقدّمة إعلام للمسلمين .
وجاء التصريح بفعل البراءة مرّة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال : وأذان إلى الناس بذلك ، أو بها ، أو بالبراءة ، لأنّ المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه ، ففيهم الذكّي والغبي ، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم .
وعُطف { ورسوله } بالرفع ، عند القرّاء كلّهم : لأنّه من عطف الجملة ، لأنّ السامع يعلم من الرفع أنّ تقديره : ورسولُه بريءٌ من المشركين ، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ ، وهذه نكتة قرآنيّة بليغة ، وقد اهتدى بها ضابىء بن الحارث في قوله :
ومن يكُ أمسَى بالمدينةِ رحله ... فإنّي وقيّارٌ بها لغريب
برفع ( قيار ) لأنّه أراد أن يجعل غربة جمله المسمّى «قياراً» غربة أخرى غير تابعة لغربته .
وممّا يجب التنبيه له : ما في بعض التفاسير أنّه روى عن الحسن قراءة { ورسوله } بالجرّ ولم يصحّ نسبتها إلى الحسن ، وكيف يتصور جرّ { ورسوله } ولا عامل بمقتضي جرّه ، ولكنّها ذات قصة طريفة : أنّ أعرابياً سمع رجلاً قرأ { أن الله بريء من المشركين ورسوله } بجرّ ورسولِه فقال الأعرابي : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء . وإنّما أراد التورّكَ على القارىء ، فلبَّبَه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءتَه فعندها أمر عمر بتعلّم العربية ، وروي أيضاً أنّ أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي . فكان ذلك سبب وضع النحو ، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو .
وهذا الأذان قد وقع في الحجّة التي حجّها أبو بكر بالناس ، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر ، موافياً الموسم ليؤذِّن ببراءة ، فأذن بها علي يوم النحر بمنى ، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية منها ، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض . ولعلّ قوله : «أو أربعين آية» شكّ من الراوي ، فما ورد في رواية النسائي ، أي عن جابر : أنّ علياً قرأ على الناس بَراءة حتّى ختمها ، فلعلّ معناه حتّى ختم ما نزل منها ممّا يتعلّق بالبراءة من المشركين ، لأنّ سورة براءة لم يتم نزولها يومئِذ ، فقد ثبت أنّ آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة .
وإنّما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق ، لأنه قيل لرسول الله إنّ العرب لا يرون أن يَنقض أحد عهدَه مع مَن عاهده إلاّ بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذراً في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم .
وروي : أنّ علياً بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى ، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته . وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي «سترون بعد الأربعة الأشهر فإنّه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلاّ الطعن والضرب» .
التفريع على جملة : { أن الله بريء من المشركين } ، فيتفرّع على ذلك حالتان : حالة التوبة ، وحالة التولي .
والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة ، والمعنى : فإنْ آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه ، لأنّ الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة ، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير . والمراد بالتولي : الإعراض عن الإيمان . وأريد بفعل { تولّيتم } معنى الاستمرار ، أي : إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله ، أي اعلموا أنّكم قد وقعتم في مكنة الله ، وأوشكتم على العذاب .
وجملة : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } معطوفة على جملة : { وأذن من الله ورسوله } لما تتضمنّه تلك الجملة من معنى الأمر ، فكأنّه قيل : فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وبأنّ من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب ، ثم قال : وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم .
و ( البشارة ) أصلها الإخبار بما فيه مسرّة ، وقد استعيرت هنا للإنذار ، وهو الإخبار بما يسوء ، على طريقة التهكّم ، كما تقدّم في قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } في سورة آل عمران ( 21 ).
والعذاب الأليم : هو عذاب القتل ، والأسر ، والسبي ، وفَيء الأموال ، كما قال تعالى : { وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين } [ التوبة : 26 ] فإنّ تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل ، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال ، أي : أنذر المشركين بأنّك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم ، كما يدلّ عليه قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] الآية .