تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 7 من سورة التوبة
استئناف بياني ، نشأ عن قوله : { براءة من الله ورسوله } [ التوبة : 1 ] ثم عن قوله : { أن الله بريء من المشركين } [ التوبة : 3 ] وعن قوله { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] التي كانت تدرجاً في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة ، لأنّ ذلك يثير سؤالاً في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر ، فلعلّ بعض قبائل العرب من المشركين يتعجّب من هذه البراءة ، ويسأل عن سببها ، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب ، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك ، وأنّه أمران : بُعد ما بين العقائد ، وسبق الغدر .
والاستفهام ب { كيف } : إنكاري إنكاراً لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام ، أي دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل { يكون } مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } [ النساء : 136 ] كما دلّ عليه قوله بعده { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم }. وليس ذلك إنكاراً على وقوع العهد ، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله ، وسمّاه الله فتحاً في قوله : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] وسمّي رضى المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [ الفتح : 4 ].
والمعنى : أنّ الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك ، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك ، فكيف يمكن اتّفاق أهليهما ، أي فما كان العهد المنعقد مَعهم إلاّ أمراً موقّتاً بمصلحة . ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علّة الإنكار على دوام العهد معهم .
وهذا يؤيّد ما فسّرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله ، وإسنادِ العهد إلى ضمير المسلمين ، في قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم } [ التوبة : 1 ].
ومعنى { عند } الاستقرار المجازي ، بمعنى الدوام أي إنّما هو عهد موقّت ، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية ، إذْ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة ، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة .
واستثناء { إلا الذين عاهدتم } ، من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام ب { كيف يكون للمشركين عهد } ، أي لا يكون عهد المشركين إلا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام .
والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام : هم بنو ضمرة ، وبنو جذيمة بن الدّيل ، من كنانة؛ وبنو بكر من كنانة .
فالموصول هنا للعهد ، وهم أخصّ من الذين مضى فيهم قوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } [ التوبة : 4 ].
والمقصود من تخصيصهم بالذكر : التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه ويتعّين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء عند المسجد الحرام ، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم ، زيادة على دخولهم في الصلح الأعمّ ، ولم ينقضوا عهدهم ، ولا ظاهروا عدوّا على المسلمين ، إلى وقت نزول براءة .
على أنّ معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنّة النكث لأنّ المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرّد ، كما قال تعالى : { إنّهم لا أيمان لهم } [ التوبة : 12 ].
وليس المراد كُلَّ من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهّمه المتوهّم ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مأذوناً بأن يعاهد فريقاً آخر منهم .
وقوله : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } تفريع على الاستثناء . فالتقدير : إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم ، أي ما داموا مستقيمين لكم . والظاهر أنّ استثناء هؤلاء؛ لأنّ لعهدهم حرمة زائِدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة .
و { مَا } ظرفية مضمّنة معنى الشرط ، والفاء الداخلة على فاء التفريع . والفاء الواقعة في قوله : { فاستقيموا لهم } فاء جواب الشرط ، وأصل ذلك أنّ الظرف والمجرور إذا قدّم على متعلّقه قد يُشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه ، ومنه قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] لوجوب جعل الفاء غير تفريعية ، لأنّه قد سبقها العطف بالواو ، وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم " كمَا تكونوا يولّ عليكم " بجزم الفعلين ، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول «ألك أبوان» قال : نعم قال : «ففيهما فجاهد» في روايته بفاءَيْن .
والاستقامة : حقيقتها عدم الاعوجاج ، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحبّ ، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج ، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال ، لأنّ سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج ، فكذلك يطلق على ضدّه الاستقامة .
وجملة : { إن الله يحب المتقين } تعليل للأمر بالاستقامة . وموقع { إنّ } أولها ، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن { إنّ } في مثل هذا تغني غناء فاء ، وقد أنبأ ذلك ، التعليل ، أنّ الاستقامة لهم من التقوى وإلاّ لم تكن مناسبة للإخبار بأنّ الله يحبّ المتّقين . عقب الأمر بالاستقامة لهم ، وهذا من الإيجاز . ولأنّ في الاستقامة لهم حفظاً للعهد الذي هو من قبيل اليمين .