تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 74 من سورة التوبة
لمّا كان معظم ما أخِذ على المنافقين هو كلماتٍ دالّةً على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نُقِل ذلك عنهم تنصّلوا منه بالأيمان الكاذبة ، عُقّبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أنّ ما يتنصّلون به تنصلٌ كاذب وأن لا ثِقة بحَلفهم ، وعلى إثبات أنّهم قالوا ما هو صريح في كفرهم . فجملة { يحلفون } مستأنفة استئنافاً بيانياً يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصّل ممّا نقل عنهم ، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم فِي حلفهم .
وقد تكون الجملة في محلّ التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر } وما بعده ، وأن ذلك إنّما أخَّر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء ، وأتِي بالمقصود في صورة جملة حاليَّة . ومعلوم أنّ القيد هو المقصود من الكلام المقيَّد . ويرجّح هذا أنّ معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضِهم عهد الإسلام ، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتُصر على إثبات مقابله وهو { ولقد قالوا كلمة الكفر } ، ولم يكن لما بعده مزيد اتّصال به .
وأيّاً ما كان فالجملة مستحقّة الفصل دون العطف .
ومفعول ما قالوا محذوف دلّ عليه قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر }.
وأكَّد صدور كلمة الكفر منهم ، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها ، بصيغة القَسم ليكون تكذيب قولهم مساوياً لقولهم في التأكيد .
وكلمةُ الكفر الكلام الدالّ عليه ، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركّب منه ومن مثله الكلام المفيد ، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاماً جامعاً موجَزاً كما في قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 8 ] وفي الحديث : « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل »
فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله . فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها ، ما هي إلاّ أفرادٌ من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعةِ المنافقين . فعن قتادة : لا عِلْمَ لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم .
وقيل : المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وابن إسحاق أنّ الجُلاَسَ بضم الجيم وتخفيف اللام بنَ سُويد بننِ الصامت قال : لئن كان ما يقول محمد حقّاً لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها ، فأخبَر عنه ربيبُه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وقيل : بل نزلت في عبد الله بن أُبي بن سَلُول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله :
{ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنّ الأعز منها الأذلّ } [ المنافقون : 8 ] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك .
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمععٍ كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا . وقد فعله واحد ، أو باعتبار قوللِ واحدٍ وسماع البقية فجُعلوا مشاركين في التبعة كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنّما قتله واحد من القبيلة ، وعلى فرض صحّة وقوع كلمة من واحد معيّن فذلك لا يقتضي أنّه لم يشاركه فيها غيره لأنّهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه . وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه وأصحابه ويشاركونه فيه .
وأمّا إسناد الكفر إلى الجمع في قوله : { وكفروا بعد إسلامهم } فكذلك .
ومعنى { بعد إسلامهم } بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة ، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدّم في قوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 66 ].
والهَمّ : نيَّة الفعل سواء فُعل أم لم يفعل .
ونوال الشيء حصوله ، أي همّوا بشيء لم يحصّلوه والذي همّوا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يترصّدوا له في عَقبة بالطريق تحتها واددٍ فإذا اعتلاها ليْلاً يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً وقد أخذَ عَمَّار بن يَاسِر بخطام راحلته يقودها . وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا .
وجملة : { وما نقموا } عطف على { ولقد قالوا } أي والحال أنّهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلاممِ المدينةَ شيئاً يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة .
والنقْم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدّم في قوله تعالى : { وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا } في سورة الأعراف ( 126 ).
وقوله : إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } استثناء تهكّمي . وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النابغة :
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهِنَّ فُلُول من قِراع الكتائب
ونكتته أنّ المتكلّم يظهر كأنّه يبحث عن شيء ينقض حكمَه الخبري ونحوَه فيذكر شيئاً هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنّه استقصى فلم يجد ما ينقضه .
وإنّما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمْن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات ، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروبٌ تفانَوا فيها قُبيل الهجرة وهي حروب بعاث .
والفضل : الزيادة في البذل والسخاء . و { مِن } ابتدائية . وفي جعل الإغناء من الفضل كنايةٌ عن وفرة الشيء المغنَى به لأنّ ذا الفضللِ يعطي الجَزل .
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنّه السبب الظاهر المباشر .
( 74 ) { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والاخرة وَمَا لَهُمْ فِى الارض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }.
التفريع على قوله : { جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلمّا أمر بجهادهم والغِلظة عليهم وتوعّدهم بالمصير إلى النار ، فرّع على ذلك الإخبارَ بأنّ التوبة مفتوحة لهم وأنَّ تدارك أمرهم في مكنتهم ، لأنّ المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرّتهم أو أن يصلح حالهم .
والتوبة هي إخلاصهم الأيمانَ . والضمير يعود إلى الكفّار والمنافقين ، والضمير في { يك } عائد إلى مصدر { يتوبوا } وهو التوبُ .
والتولّي : الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة . والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر ، وفي الآخرة عذاب النار .
وجيء بفعل { يك } في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خيرٌ لهم لتأكيد وقوع الخَيْر عند التوبة ، والإيماءِ إلى أنّه لا يحصل الخير إلاّ عند التوبة لأنّ فعل التكوين مؤذن بذلك .
وحَذف نون «يكن» للتخفيف لأنّها لسكونها تهيّأت للحذف وحسَّنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله : { وإن تك حسنة يضاعفها } في سورة النساء ( 40 ).
وجملة : وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } عطف على جملة { يعذبهم الله } الخ فتكون جواباً ثانياً للشرط ، ولا يريبك أنّها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة . لأنّه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإنّ حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعاً للجملة المعطوف عليها .
والمعنى أنّهم إن تولّوا لم يجدوا من ينصرهم مِن القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلاّ من لا يعبأ بهم عَدداً وعُدداً ، والمراد نفي الولي النافع كما هو مفهوم الولي وأمّا من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي .