تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 8 من سورة الليل
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } " اه .
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله : " ما من أحد إلا وقد كتبَ مقعده " الخ معناه قد علم الله أن أحداً سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُوافيَ عليه ، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يُوافِيَ عليه ، فقوله : «وقد كتب مقعده» جعلت الكتابة تمثيلاً لعلم الله بالمعلومات علماً موافقاً لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص ، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصاً دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط .
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس ، ومعنى جوابه : أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة . وذُكر مقابله وهو العمل السيىء إتماماً للفائدة ولا علاقة له بالجواب .
وليس مجازه مماثلاً لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل السعادة فتعين أن يكون تيسيراً للعمل ، أي إعداداً وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها .
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ : { فأما من أعطى واتقى } الآية لأنه قرأها تبييناً واستدلالاً لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومَحَلّ الاستدلال هو قوله تعالى : { فسنيسره } .
فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسراً للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلاً للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر ، أم كان للعمل مما يزيد السعادة ويُنقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمناً لأن ثبوت أحد معنَيَي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلاً لثبوت التيسير مِن أصله .
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله : «اعملوا» لأن الآية ذكرت عملاً وذكرت تيسيراً لليسرى وتيسيراً للعسرى ، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنياً بها السعادة والعسرى معنياً بها الشقاوة ، وما صدْق السعادة الفوز بالجنة ، وما صدْقَ الشقاوة الهُويُّ في النار .
وإذ كان الوعدُ بتيسير اليُسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإِعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات ، أي جزاءٌ عن فعلها : فالمتيسر : تيسير الدوام عليها ، وتكون اليسرى صفة للأعمال ، وذلك من الإِظهار في مقام الإِضمار . والأصل : مستيسر له أعمالَه ، وعدل عن الإِضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها مُيسرة من الله كقوله تعالى : { ونيسرك لليسرى } في سورة الأعلى ( 8 ) .
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها ، وبين تعلُّق خطابه إياهم بشرائعه ، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله ، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم .
وإنما خص الإِعطاء بالذِكْر في قوله : { فأما من أعطى واتقى } مع شمول { اتقى } لمفاده ، وخص البخل بالذكر في قوله : { وأما من بخل واستغنى } مع شمول { استغنى } له ، لتحريض المسلمين على الإِعطاء ، فالإِعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين .